أحمد البدري، العراق
هربت سالي (26 عام) من مدينتها البصرة، مطلع العام الجاري بعد عدد من الأحداث التي تعرضت لها هي وعدد من أصدقائها وزملائها، وسالي فتاة مسيحية تسكن عائلتها مدينة البصرة في جنوب العراق، وتنشط في مجال المجتمع المدني منذ العام 2016، حيث خاضت تجربتها الأولى في العمل التطوعي بنشاط استهدف دارا للأيتام في مدينتها، تقول سالي: “لقد أحببت فكرة أن أزرع البسمة وأساعد الناس”، منذ ذلك الحين صار المجتمع المدني جزء من حياتها، وأصبحت واحدة من النشطاء المدنيين والمدافعين عن حقوق الإنسان عبر أنشطة متعددة في مجال الإغاثة والدفاع عن الحريات المدنية والحقوق.
لأشهر خلت، تظاهر الآلاف من العراقيين في عدد من المدن العراقية، لقد انطلق الحراك في بداية أكتوبر الماضي، وقد واجه المحتجون عمليات قمع كبيرة باستخدام أسلحة قاتلة كبنادق الكلاشنكوف والقناصات وغيرها، يقول علي (22 عام) “ضربنا من قبل قناصين استهدفونا بشكل مباشر، وقد تزامن هذا مع تحرك لرجال الأمن بآلياتهم ومعداتهم نحونا، حيث أطلقوا الرصاص الحي علينا بشكل عشوائي، فسقط الكثير من الشباب حولي، ونجوت بأعجوبة بعد اختبائي خلف إحدى حاويات القمامة لأهرب بعدها إلى بيت أحد أقاربي”، ويضيف “كان الوضع جنونياً، لم يخطر ببالي عندما ذهبت للمشاركة في الاحتجاجات أنني ذاهب إلى ساحة حرب”.
وقد استطاعت الحكومة المدعومة بمجاميع المليشيات المسلحة إنهاء الموجة الأولى من الاحتجاجات، لكنه سرعان ما تفجر وتضاعف الزخم الشعبي للاحتجاجات في الموجة الثانية يوم 25 أكتوبر، إذ احتشد مئات آلاف الشباب المعدمين والعاطلين عن العمل في الساحات العامة والطرقات في بغداد والمحافظات الجنوبية، كما سيطروا على بناية “المطعم التركي” المهجورة في ساحة التحرير وسط بغداد، والتي يعتقد أن القناصة استخدموها لإطلاق النار على المتظاهرين، رغم ذلك فإن عمليات القتل الوحشي التي تعرض لها المحتجين لم تتوقف، وقد سُجل إلى الآن مقتل أكثر من 700 متظاهر، وجرح أكثر من 24000 آخرين.
تقول سالي: “رغم أن مشاركتي في احتجاجات عام 2015 كانت عفوية كأي متظاهر آخر، إلا أنه لاحقاً وبعد انخراطي في المجتمع المدني تطورت مشاركتي في الاحتجاجات بشكل اخر، عبر التحشيد والتوعية والتنظيم أو الدعوات أو الشعارات أو تقارير الرصد وغيرها” وتضيف “أن هذا العمل سلط علي الأضواء، مما دفع بعض الجهات لاستهدافي عبر حملات لتشويه سمعتي تلاها لاحقاً تهديدات جدية تلقيتها تتوعدني بالتصفية”.
خلال الاحتجاجات المستمرة منذ 5 أشهر، تعرض العديد من النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان إلى عمليات للتصفية أو الإخفاء القسري بسبب دورهم في كشف الانتهاكات التي تطال المحتجين، حيث يكشف لنا أحد النشطاء المهتمين بقضايا حقوق الإنسان إلى تعرض النشطاء لعمليات ممنهجة للتصفية والإخفاء، فيما اضطر العشرات من النشطاء إلى الهرب من مدنهم بسبب تلك العمليات. أو بسبب التهديدات المباشرة التي وصلتهم.
يقول فائز (33 عام): “اضطر صديقي عبد الله بسبب نشاطه إلى ترك أهله ودراسته في كلية اللغات وذهب ليعيش في إسطنبول، لأن جماعة مسلحة قدمت إلى محل عمل والده، وأنذرته بأن عبد الله سيكون هدفاً لهم ما لم يغادر منطقة سكنه خلال 24 ساعة وكل ذلك بسبب نشاطه في الاحتجاجات” ويضيف فائز بحسرة “لقد حرمت من صديقي منذ أكثر 3 أشهر. لقد اضطر للمغادرة، كما تم فصله من دراسته في الجامعة”.
تروي لنا سالي بخوف كبير قصة اغتيال أحد معارفها، وهو الصحفي أحمد عبد الصمد، الذي اغتيل مع المصورة صفاء غالي في 10 كانون الثاني 2020 بسبب مساهمتهما في تغطية الاحتجاجات، وتقول: “لم تكن الحادثة هي الأولى من نوعها، إذ سبقها عدة عمليات اغتيال جرت في مدينتي، ابتدأت بقيام جهات غير معروفة باغتيال الزوجين الناشطين سارة وحسين في منزلهما بداية شهر أكتوبر” وتضيف “أنه لاحقاً جرت عدة اغتيالات أو محاولات للاغتيال ولعدة شخصيات، فضلاً عن عدد آخر من عمليات الاختطاف والاختفاء المريب لآخرين”. وتؤكد سالي أنها شخصياً وزميل لها تعرضا في يوم 3 يناير 2020 إلى مطاردة من قبل دراجة نارية بعد خروجهم من ساحة الاعتصام في البصرة، مما دفعها إلى ترك مدينتها.
رغم تأكيد الحكومة ممارسة بعض الجهات لعمليات التهديد والإخفاء القسري والاغتيال للنشطاء، إلا أنها -الحكومة- أنكرت معرفتها بهم، فيما تداولت تسمية أطلقتها على تلك الجهات بعنوان “الطرف الثالث” في إشارة إلى أن الحكومة والمتظاهرين هما الطرفين الأول والثاني خلال أحداث الاحتجاجات. ووعدت الحكومة بتشكيل لجان لكشف الحقائق من أجل تقديم المتورطين إلى العدالة، إلا أن المتظاهرين والنشطاء يؤكدون تعمد أطراف حكومية إخفاء الحقائق بسبب تورط عدد من المتنفذين السياسيين فيها.
يقول علاء (23 عام): “إن عملية تشكيل اللجان هذه ما هي إلا مهزلة بيروقراطية، لا ينتج عنها شيء سوى الثرثرة الفارغة، ولن تستطيع أن توجه أي اتهامات مباشرة لقاتلي أصدقائنا وزملائنا، أو الجهات التي هددتهم. هم يتعمدون أن تكون الأمور بهذه الطريقة، لكي لا يكشفوا الحقائق الواضحة” ويذكر لنا علاء أبيات شعرية للشاعر المتنبي (توفي عام 915م) والتي يقول فيها “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم” في إشارة إلى أن المتنفذين السياسيين هم الخصم المتورطين بأعمال العنف ضد المحتجين، وبنفس الوقت هم الحكم الذي يحكم بينهم وبين المتظاهرين.
سالي الآن لا تعرف ماذا ينتظرها في المستقبل، وهي تخاف “في حال فشل الاحتجاجات أن تجه البلد إلى مزيد من القمع للحريات والحقوق”، وأنها بذلك لن تستطيع العودة ما لم يكن هناك تطمينات على حياتها وحياة عائلتها بأن لا أحد سيتعرض لهم. وتضيف “إن الواقع ما يزال معقداً، لذلك أنا أعول على انتصار الثورة للعودة إلى مدينتي”.
* ملاحظة: جميع الأسماء الواردة في التقرير مستعارة، حيث تم حجب الأسماء الحقيقية لضرورات تتعلق بحماية الأشخاص الذين أخبرونا قصصهم، وعبروا عن آرائهم.
اقرأ/ي أيضاً:
ملف العدد 47: الاحتجاجات العراقية مرة أخرى.. الحقوق يقابلها الدم!
مظاهرات العراق: الشعب الثوري الحي في مواجهة الرصاص الحي