تبدو بعض المصطلحات جذّابةً براقةً، تغري سامعها بتبنّيها واعتبارها بداهةً لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. ولعل من أكثر هذه المصطلحات التصاقًا بذهن اللاجئ: الحفاظ على الهوية.
بدايةً، ولنعترف، بإنّ الادعاء بكمال أمرِ أو نظريةٍ أو فلسفة أو هوية؛ هو بحد ذاته دليل على نقصانها، فما يوحي لمتبنّيه بأنه “كامل” ينتزع منه روح الشك والتساؤل والبحث، هذه الروح التي تعتبر المحرك الرئيس في كل تقدم أنجزته البشرية.
ربما نحتاج كلاجئين قبل التبني الكامل لضرورة الحفاظ على الهوية، نحتاج بداية لوقفة مطوّلة مع الهوية ذاتها، ووضعها في ميزان العقل، و”فيلتر” الإنسانية، ومقارنة تفاصيل هوياتنا، كل تفاصيلها، مع الهويات التي نحتك بها في بلاد اللجوء، وفرز الغثّ من السمين.
الهوية ليست وصمةً، أو التزامًا، بل هي قرار فردي ذاتي تكفل أبسط حقوق الإنسان –بالمعنى المجازي لا القانوني المحض– حريّة اتخاذه، فتخلّي الإنسان عن قيمةٍ ما من قيم مجتمعه القديم، واستبدالها بقيمة مناقضة تعلمها من مجتمع آخر ليس جريمة أو حتى نقيصةً، فهو بدايةً لم يختر بأي حال أن يكون ابن المجتمع القديم ولا حاملاً لقيمه التي تمثّل جزءًا هامًا من هويته كفرد. وهو لاحقًا، وإن تمثّل هذه القيم، سواءً عن قناعةٍ أو تماشيًا مع الظرف العام، فهو مازال يملك كل الحقّ في تغير قناعاته، وبالتالي قيمه، وبالتالي هويته ذاتها.
والتخلي عن قيمة أو جزء من هويتنا القديمة، التي حملناها على درب اللجوء المضني، ليس خطأ بحدّ ذاته، ولا مبرر لجلد ذاتنا، أو جلد أبناء بلدنا اللاجئين إن هم غيروا قناعاتهم نتيجة احتكاكهم بمجتمعات قطعت شوطًا كبيرًا في طريق التحضر، فهذه المجتمعات دفعت أثمانًا باهظة لتعيد صياغة قيمها، وهوياتها، ولا منطق في أن يكون الفرد مضطرًا لخوض قرون من الصراعات الدينية والقبلية، وحربين عالميين، ليتعلم، المنطق يقول أن عليه أن يراقب، ويتعلم.
ولعل الفرصة النادرة التي نمتلكها كلاجئين –وقد لايملكها حتى مواطنو دول اللجوء– هي القدرة على تفحص الهوية بأقل قدر ممكن من الضغوط الاجتماعية التي تشكل عادةً حواجز صلبة تعيق قدرة الإنسان على التغير، والتغيير.
إضافة إلى هذه الميزة، فهو، وبحكم كونه أمام هويتين: بلده وبلد اللجوء، فهو قادر إن أراد على اختيار أجزاء مما يعجبه من كلا الهويتين، فالهوية بطبيعتها ليست كتلة متماسكة علينا تبنيها بكل مفرداتها وتفاصيلها، هي بحر واسع من التفاصيل والقيم والعادات والثقافة والأمزجة، واللاجئ أمام بحرين، وله إن أراد، أن يعيد بناء هويته ضمن هذه الخيارات التي تبدو غاية في الاتساع، ولعله سيخلص في النهاية إلى امتلاك هوية فريدة، تأخذ من كل بحر درره، وتترك زبده. هذه الهوية التي قد يتأخر اكتمالها جيلاً أو اثنين، ولا ضير في هذا التأخر إذا أنه من حتميات الحياة.
يبقى القلق، كلّ القلق، من ضياع اللاجئ أثناء بحثه، وسعيه لبناء هوية جديدة، فكثرة الخيارات، والصراع المضني بين ما يحمله وما هو متاح، والقلق المستمر نتيجة عاملين ضاغطين بقسوة: الشعور بأن التمسك بهويته القديمة هو من ضرورات الانتماء لبلده، والشعور بأن ذوبانه في المجتمع الجديد قد يجعل حياته أسهل ويوفّر عليه مواجهات قد تكون قاسية مع الآخر المختلف.
بين احتمال البناء الفريد، والقلق من التشوه، نواجه اليوم أسئلةً ملحّةً، وقرارات لا بد من اتخاذها، ورغم كل المخاوف، تبقى إعادة البناء، على مخاطرها، خيرًا من التقوقع والانغلاق والتعامل مع الهوية كمسلّمة مقدّسة.