إذا افترضنا بأنّ النّزوح هو أسوأ غنائم الحرب، فإنّ الهجرة هي الخسارة بطعم الغنيمة زمن السِلم، وقد يبدو أنّ هذين الفعلين مختلفين في كيفيّة الحدوث لكنّهما يتفقان في الأسباب والنتائج، فإقدامنا عليهما يحصل بفعل دوافع خارجةٍ عن إرادتنا، وهما بالمحصّلة يُنتجان صفاتٍ “مختلفة” في الفرد إذا أردنا تجنّب المبالغة في وصفها بـ “الجديدة”. وستدفعانه في أيّ مكانٍ يكون فيه، إلى خوض حربه الوجوديّة ذاتها. وفي الحرب ليس هنالك من رابحين، هناك فقط من يتفوّق بحجم الغنائم، هذا كلّ شيء. والأجدى أن تكون غنائمنا بقدر الخسارة أو قريبًا منها، فرصة المعرفة غنيمةٌ بحدّ ذاتها، المشاهدة أحيانًا، التّفكير من زوايا مختلفة، لا داع لأن تراهن على شيء، أنت الكائن المتغيّر منذ الصّباح حتى آخر خيوط الشمس، حتى في نومك تتحوّل، ينمو جسدك تخزّن ذاكرتك، يطول شعرك ربمّا. لا يمكن أن تُوقف ذلك، روحك تخضع للتّحول كذلك، تسعى في حاجتها لولادةٍ جديدة. إن كنت على سريرك أو أيّ مكانٍ في العالم لن يتوقف هذا، لكن تغيير المكان هو الأكثر استعصاءً على التّقبل عادةً، كونه يشمل المحيط بأكمله، ويأتي كنتيجة لواقعٍ مفروضٍ يبدأ باللغة، الإحساس بالوقت، الروتين اليومي، المفاهيم، معاير الجمال، طريقة تعاطيك مع الأشياء، طعم الماء، الهواء الذي تستنشقه حتى طريقتك في المشيّ ستتغير. هكذا بكلّ بساطةٍ ستكتشف أشياء فائضةً فيك وستعمل على لجمها أو تحديدها، بينما ستكتسب تدريجيًّا طرائق جديدةٍ في العيش ربما ستضع بين قوسين كلّ ما تعلّمته سابقًا لتجري عليه مقارنةً مع ما يأتيك حديثًا ثم بعدها ستقرّر ما إذا ستطلقه وستتابع فيه كما هو، أو ستبقيه حيز التّمحيص والتحليل وربما التعديل لتبنيه مستقبلاً. ستنتظر في كلّ يوم شيئًا ما لا تدري ماهو أنت الكائن المفتوح على الاحتمالات التي تجهلها تمامًا.
سيلزمك شهورٌ وربما أعوام لتحفظ في أيّ اتجاهٍ تغيب الشّمس في البلد الجديد. ستمرّ بفترةٍ من الحنين بل ستتحوّل بكليتك إلى ذاكرةٍ متحرّكة، سينتابك وخز الاشتياق لكلّ شيءٍ حتى لتلك الأشياء التي لم تكن تعيرها اهتمامًا كذلك النتوء في أرضيّة المنزل، رائحة بيتك التي باتت تفصلك عنه مئات الحدود، الأشياء الكثيرة التي لم تتسع لها الحقيبة بما في ذلك المقهى الذي اعتدت الجلوس فيه، أو (الزريعة) التي تركتها تذبل على شباك البيت وحيدة، وسط حارةٍ خاويةٍ تقريبًا إلا من بعض الأصوات والأرواح.
ثم بعد ذلك ستعتاد مشهد فنجان القهوة الوحيد على الطاولة والرسائل الكثيرة من الأهل والأصدقاء التي تنتظر الرّد. في اليوم الأوّل سترد عليها جميعًا وفي الثاني كذلك وبعد أسبوع سيصبح روتينك الذي تفتتح به اليوم تمامًا كما اعتدت إلقاء التحيّة على بائع البسطة في الحارة كلّ صباح. الأصدقاء الجدد كثيرون غالبًا، أستاذ اللّغة، زملاؤك في المدرسة، جارتك العجوز التي تلوّح لك من على كرسيها وتبتسم، حتى صاحب السوبر ماركت يصبح مشروع صديق، جميعهم سيساعدونك في تعلّم طريقتهم في السّلام، ومعنى حركات أيديهم وتعابير وجوههم كما ورثوها عن أجدادهم، وهنا سيكون عليك التخفيف من حركات اليدين قليلاً والتركيز على طريقة تنفّس الأحرف ونغمة الكلام في سعيك لبدء العيش بتناغمٍ مع المحيط.
في رحلة النزوح أو الهجرة، الاندماج في الوسط الجديد سيحدث تلقائيًا، يبقى أنّ هناك نسبًا لذلك الاندماج أنت فقط من ستحددها، مع احتفاظك عميقًا جدًا بأشياء من الصّعب تغيرها أو اسبدالها، كنت نازحًا مهاجرًا أو أيَّ لعنةٍ أخرى فهي صبغة المكان الذي ولدت فيه، تُرابك الأوّل، ذاك الذي تحمله أينما كنت كوشمٍ لا يمحى، الوطن.