غيثاء الشعار*
لا تكف وسائل التواصل الاجتماعي عن مفاجأتنا بكمية العنف اللفظي والخلافات التي تنشأ فيها حول أي موضوع مهما كان بديهياً، قد تتفاوت حدتها من المديح إلى إعلان الحرب، لا هدف لها إلا سحق الآخر، ونعته بأشد العبارات تجريحاً وتحقيراً، حتى صارت هذه المواقع مستنقعاً للمصارعة اللفظية والفضائح وتشويه السمعة، والاستفزاز.
حدث هذا مؤخراً بعد وفاة المغنية الفلسطينية ريم بنا، ووصل الخلاف حولها حداً يصعب تصوره، فلم تكن المشكلة باختلاف وجهات النظر، إنما بالأسلوب الانفعالي اللاعقلاني المتمثل بتوجيه الشتائم والإهانات بسبب اختلاف الآراء السياسية والدينية، وربما لأنها أنثى مستقلة ذات رأي وموقف سياسي.
نتذكر أيضاً المناوشات الحامية التي تلت وفاة العالم البريطاني ستيفن هوكينغ، والذي لم تشفع له مكانته العلمية عالمياً من السخرية من عجزه الجسدي والتهليل لموته، ونعته ومحبيه بالكفار، بسبب بعض آرائه العلمية التي تم ربطها بالدين.
شتائم على الهواء مباشرةً
وبمتابعة ما يدونه غالبية مستخدمي المواقع الإلكترونية من آراء على المقالات الإخبارية أو مقالات الرأي، أو في المحادثات المتزامنة مع البث على قنوات البث المباشر، نجد جزءاً كبيراً منها يندرج تحت بند الشتيمة والإقصاء، رغم أننا نلاحظ من خلال نوعية التعليقات أن غالبية المهاجمين لا يعرفون شيئاً عن المحتوى، إذ يكفي أن يشير العنوان إلى قضايا محددة حتى تتوالى التعليقات المستنكرة لتصل إلى حرب افتراضية عرقية أو طائفية، عدا عن التشكيك بصحة المعلومات الواردة في المقال واستحضار نظرية المؤامرة، بالإضافة إلى شتم الكاتب والموقع واتهامهما بالعمالة، وإذا كانت الكاتبة امرأة يبدأ فوراً المس بشرفها وأخلاقها، خاصة إذا تعلق الموضوع بالنسوية أو الميول الجنسية أو النزعات التحررية.
ولا يمرُّ أي موضوع على مواقع التواصل دون أن تشتعل الحروب ضد أيّ رأيٍ مخالف لما يراه الآخر، حتى صارت مواضيع كالموت والمرض والكوارث الإنسانية بلا حرمة، ولا يجد البعض رادعاً عن كتابة عبارات الشماتة والسخرية خصوصاً إذا كان المريض أو الميت من طائفة أخرى أو اتجاه سياسي معاكس، ووصل التشفي أحياناً إلى التقاط صور سيلفي مع الموتى وضحايا الحروب، وعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي، كما فعل بعض الإعلاميين السوريين، رغم عدم مهنية هذا السلوك ومخالفته لأبسط حقوق الإنسان.
أصل العنف.. إلغاء الحريات
إن سعي الأنظمة السياسية والدينية لإلغاء الحريات والآراء الفردية ونشر خطاب كراهية ممنهج، بهدف تسهيل السيطرة على المجتمع، تمت ترجمته بالتنميط ورفض التعددية في الحياة السياسية والفنية والدينية، وكذلك في السلوك والميول الإنسانية، والتضييق على المخالفين وتحريض الناس عليهم، أو التنكيل بهم بالاعتقال والتعذيب والقتل، وهذا ما فعله النظام السوري في بداية الثورة بوصف معارضيه المدنيين بالمندسين والإرهابيين وأصحاب الأجندات الخارجية، وجند أجهزته الإعلامية والأمنية لمحاربتهم وكان هذا أحد الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، وساهم في زيادة الخلاف والكراهية بين فئات الشعب. عدا عن مظاهر العنف المستمر من قصفٍ وقتل واعتقال وتهجير وفقر وإحباط، انعكست كلها في صعوبة ضبط النفس وعدم السيطرة على الغضب الذي غالباً ما يتم التعبير عنه بالعنف اللفظي حول أي قضية مهما اختلفت أهميتها.
ساهم أيضاَ طابع الهيمنة في غياب الحوار والنقد، بوجود سلطة واحدة تأمر والباقي ينفذ دون نقاش (الذكر في العائلة، المدير، ولي الأمر أو رجل الأمن..) فلا أحد يجرؤ أن يناقش أو يعترض. لا ننسى أيضاً تحالف المؤسسة الدينية مع الحاكم حيث أوجبت طاعته ولو كان ظالماً، وهذا دعم بدوره السلطة الأبوية التي وجد الرجل مصلحته في الحفاظ عليها، فغالباً ما يتخذ هو القرارات ولا تستطيع الزوجة أو الأبناء مناقشته، وحتى في المدرسة التي تعتمد نظاماً تربوياً يخضع لأهداف السلطة، ينشأ الأطفال على نبذ الآخر وكبت الحرية، ويتعرضون للقمع والسخرية من المعلم والزملاء إذا حاول أحدهم إبداء رأيه حتى في المادة الدراسية.
انتقاد فكرة يعادل تهديد الوجود
كما يتبنى البعض مسلماتٍ لا تخضع للنقض أو النقد، تجعل وجهة النظر المخالفة موضع هجومٍ ونبذ، وذلك كوسيلة دفاعية فلا أحد مستعد لاستقبال معلومات تجبره على إعادة التفكير بمسلماته، وكأن الأيمان بفكرة ما يحدد الهوية وبالتالي فإن دحضها هو تهديدٌ للوجود.
يمكن اعتبار الشتم وغيره من أساليب العنف اللفظي دليل هشاشة فكرة المهاجم وضعف حجته أحياناً، إلا أنه يشكل بالنسبة للكثيرين نوعاً من اللغة العاطفية التي صار لها حضور في الأحاديث اليومية وحتى في الأدب، حتى يمكن القول إنها لا تشكل عائقاً فكرياً، فهناك فئةٌ تشتم لكنها قابلة للنقاش وتقبل الرأي الآخر، في حين أن هناك أشخاص عاجزون عن إجراء أي حوار وتقبل أي اختلاف رغم عدم استخدامهم الشتيمة على الإطلاق.
مهاجمون خلف أسماءٍ مستعارة
صحيح أن الكثير من مستخدمي المواقع الإلكترونية يحرضون ويكتبون عبارات عنصرية وطائفية بأسمائهم الصريحة، إلا أن صعوبة تحديد هوية المستخدمين ساعدت الأشخاص الذين يخجلون من استخدام نفس التعابير في المواجهة المباشرة، على الاستعانة بأسماء وهمية يعبرون من خلالها عمّا في داخلهم بمواجهة افتراضية، ما كانوا ليستخدموها لو لم توفر لهم الهويات الوهمية هذه الميزة.
قد يكون مهماً للبعض أن يبقوا مجهولين ليتمكنوا من التعبير، لكنّ الأهم أن نشمل أنفسنا في إطار اجتماعي أو سياسي أو ديني لنعبر عن وجودنا ولنشعر بالأمان، لا بد أن ندافع عن الإطار الذي يؤوينا أياً يكن، أو على الأقل هذا ما توحي لنا به السلطة أياً تكن. وفي النهاية يمكن القول أن هناك قوتين تتحكمان بهذه المجتمعات الافتراضية، الخوف والعزلة، ومن لا يخاف العزلة هو مشروع ثائر.
*غيثاء الشعار. كاتبة سوريّة، تدرس (السياسات العامة) في برلين
اقرأ أيضاً: