… بحسب منظور المهاجرين القدماء وتجاربهم الشخصية
التقت أبواب بمجموعة من المهاجرين الذين يقيمون في ألمانيا منذ زمن طويل، أخذوا جنسيتها وانصاعوا لقوانينها، وفيها يعملون ويعيشون حياتهم ومستقبلهم.
وما يلي من أسئلةٍ وأجوبة هو مجرد محاولة للاستفادة من التجارب السابقة في مواجهة التحديات اليومية للواصلين الجدد ومحاولة فهم الظرف الألماني أكثر والتخفيف من حدة الغربة فيه.
هل تشعر بالانتماء إلى ألمانيا، وهل يتعارض هذا الشعور مع وطنيتك وانتمائك السوري؟
“ألمانيا في المرحلة الراهنة هي وطني البديل”، هكذا تجيب علياء أتاسي وهي صحفية سورية مقيمة في ألمانيا منذ 10 سنوات وتعمل في دوتشي فيلليه، “لا يمكنني الادعاء بأني أشعر بالانتماء التام لألمانيا، لكنني معنية بشؤونها وبما تشهده من تطورات وتغيرات، أنا ألمانية في بعض المسائل وسورية في أخرى. لكني إن سئلت عن هويتي فلن أقنع إلا بسوريتي. فأنا سورية وهي الجرح النازف الذي يقض مضجعي”
أما لبنى الكرجوسلي وهي موظفة إعلامية في إحدى السفارات، وتقيم في ألمانيا منذ 27 عاماً فهي تقول أن المجتمع الألماني متنوع وبه فئات متعددة، ولذلك فإن انتماءها هو للفئة التي تناسبها وهذا تماماً نوع الانتماء الذي تشعر به تجاه سوريا، للناس الذين تحبهم وتتفاهم معهم فكرياً وروحياً.
ويقول السيد أسامة جمعة الذي عاش في ألمانيا منذ 29 عاماً وعمل في عدة مهن، أنه توقف عن سؤال نفسه عن موضوع الانتماء، فهو مواطن ألماني وفقط، يشعر أحياناً ببعض الاشتياق لسوريا بسبب ذكريات عابرة وبعض الأهل المتبقين هناك، لكنه أنشأ هنا حياة وعائلة وأصدقاء وهذا هو المهم.
لكن غياث الإبراهيم، وهو سوري يعمل في مجال البناء في ألمانيا منذ 7 سنوات لكنه مقيم فيها منذ 12 عاماً، فإن شعوره بالانتماءهو لسوريا فقط، ويعتقد أن السبب هو الحرب الدائرة هناك والتي تجعله في حالة قلق دائم، إضافةً إلى أنه مرتبط بألمانيا بسبب أبنائه الذين يريد لهم حياةً أفضل هنا.
من ناحيتها تعتبر المترجمة والناشطة الاجتماعية ميساء سلامة فولف أن ألمانيا التي تعيش فيها منذ 20 عاماً أصبحت وطنها وتقول: “أحصل هنا على حقوقي كاملةً وأُعامل بشكل محترم جداً، خاصةً أنني لست عبئاً على البلد، ولكنني رغم كثرة أصدقائي الألمان لا أجد نفسي إلا مع أصدقائي العرب، تجمعنا روح النكتة وطريقتنا في السخرية من آلامنا وما إلى ذلك”، وتضيف “لايمكن أن أنسى سوريا وبأي لحظة أشعر أن سوريا بحاجتي سأعود مباشرة ولو لفترة مؤقتة”.
هل تعتقد أن الضغوط التي تعرضت لها حين قدومك إلى ألمانيا متختلفة عن الضغوط التي تعرض ويتعرض لها اللاجئون أو القادمون الجدد؟
يتفق علياء وأسامة على أن الظروف والمعطيات التي يواجهها القادمون الجدد الآن مختلفة، بسبب صعوبات التأقلم وتعلم اللغة والإجراءات الإدارية والبيروقراطية وهي ربما أكثر تعقيدا من تلك التي اضطرت هي لخوضها للالتحاق بالجامعة. ورغم صعوبة الظروف التي “أوصلت” القادمين الجدد إلى هنا، إلا أنهم برأي علياء محظوظين من ناحية وجود مؤسسات كثيرة وجمعيات ومبادرات فردية دعمتهم في البداية في التوجيه والالتحاق بدورات اللغة ودمجهم في سوق العمل حتى وإن كان ذلك عبر مشاريع مؤقتة.
وتوافق لبنى على ذلك لاعتبار أن الألمان استفادوا من تجاربهم السابقة مع المهاجرين، “عندما جئت إلى ألمانيا لم يكن أحد يعرف حتى كيف يعادل شهادتي المدرسية. لا أعتقد أن أحداً من اللاجئين الجدد سيعاني بنفس الطريقة هنا”.
أما بالنسبة لميسا فهي لم تتعرض لضغوط كهذه بحكم زواجها من مواطن ألماني وكلاهما كانا يعملان وتمكنت بفضل عملها من دخول المجتمع الألماني بقوة، من خلال تنظيم المعارض الفنية كما أن الطبقة المهتمة بالثقافة والفنون تكون أحكامها المسبقة تجاه الاجانب خفيفة جداً بطبيعة الحال.
ومن جهته غياث، يعتبر أنه تعرض لضغط كبير مادياً ولغوياً، فهو لم يستطع الالتحاق بدورات لغة وإنما تعلم من الشارع، وكان يعمل بشكل متقطع ويحتاج للمعونات في أوقات كثيرة، كما أنه عانى كثيراً في تجديد إقامته في كل مرة، وهذا ما لا يعتبر مشكلةً للقادمين الجدد. لكنه لم يكن سيتحمل قسوة الظروف التي تعرضوا لها في رحلتهم وفي هروبهم من الحرب، ولذلك فهم بحاجة أكبر لأي دعم ممكن.
كيف تأقلمت مع الفترة الأولى لوجودك في ألمانيا، متى بدأت تشعر بأن هذا البلد بلدك؟ أو متى تضاءلت مشاعر الغربة ؟
الانسجام والتأقلم مع الغربة مرتبط بوجود أصدقاء برأي علياء، فالصحبة الطيبة تخفف من وطأة الغربة. والمثل يقول الجنة بلا ناس ما بتنداس. أما الخطوة الأولى بالنسبة للبنى فهي اللغة: “الشخص الجديد عليه أن يقبل على الاخرين ليفهمهم ويتعرف على طريقة تفكيرهم وأسلوب حياتهم. وهذا قد يستغرق سنوات، ولكن عندما تمكنت من اللغة توسعت دائرة الاصدقاء من كل الجنسيات وتضاءلت مشاعر الغربة”
أما ميسا وغياث فكانا مضطرين لتعلم اللغة بسرعة لعدم وجود عرب أبداً حولهما، لكن الإحساس بالاستقرار في هذا البلد، ارتبط بالعمل الجدي والالتزام به أخلاقياً ووظيفياً. بالنسبة لميسا هذا استغرق زمناً طويلاً حيث أمضت السنوات الست الأولى في زيارات إلى سوريا. لكنها الآن تمارس مهنتها وواجباتها كأي مواطنة ألماني حقيقي، ولا تشعر بأي تمييز.
هل تعتقد أن القادمين الجدد سيمرون بنفس هذه المراحل أم أن الحالات هذه مختلفة؟
يتوقف ذلك بحسب علياء على طريقة تفكير القادمين الجدد وجهدهم ورغبتهم الشخصية في التأقلم مع نظام البلد. وهذا أمر شخصي إلى حد بعيد. وتعتبر لبنى أن بعضها سيكون مشابهاً مثل تعلم اللغة، إلا أن المجتمع الألماني بسياسة الترحيب باللاجئين سهل أموراً كثيرة عليهم، وهناك ألمان قاموا بتبني أشخاص وعائلات كاملة من ناحية المساعدة في الترجمة والأوراق والأطباء. ناهيك عن توفير مترجمين في الدوائر المختلفة. ويتفق معها في ذلك كل من غياث وأسامة.
هل سيتقبل المجتمع الألماني هذه الأعداد الكبيرة من القادمين الجدد؟ بمعنى آخر ما الذي يريده الألمان من اللاجئين؟
تعتقد لبنى أن أي مجتمع ينظر إلى الغريب بحذر، وكلما تفاهم هذا الغريب لغوياً واجتماعياً مع محيطه، كلما تلاشت المخاوف، ويتفق أسامة معها في أن تقبل المجتمع الألماني للقادمين يعتمد على مدى احترامهم للقوانين والعادات الألمانية، وإتقانهم اللغة وسعيهم للعمل، ومساهمتهم في نظام التأمين الاجتماعي والضرائب.
وتؤكد علياء أن المجتمع الألماني أبدى انفتاحاً كبيراً تجاه اللاجئين، لكن المسؤولية ملقاة على الجانبين، ورغم أن الألماني قد لا يبادر في العلاقة لكنه يتجاوب بشكل سريع مع المبادرة.
ويتحفظ غياث من ناحيته، حيث أنه بذل الكثير من المبادرات عند وصوله لألمانيا، لكنه لم يشعر بأنه مرحب به، مما صعب عليه تقبل المجتمع، كما أنه اهتم كثيراً بالالتزام بالقوانين لكنه في تلك المرحلة كان يجهل الكثير منها، مما عرضه لبعض المشاكل دون قصد وهذا بدوره زاد نفوره من الألمان، لكنه الآن يدرك أن هذا الشعب يقدس القانون فوق كل شيء، وصار يفهم شعورهم بل ويحس مثلهم حين يرى بعض المخالفات من القادمين الجدد.
“كل العالم يشتغل على قضية اللاجئين ويستغلها سواء بطيب نية أو بسوءها” تقول ميسا، وقد استفاد الألمان منهم سواء بالمشاريع الكثيرة وفرص العمل وتدوير المال في ألمانيا، وهم يتقبلون كل من لديه نية حقيقية بالاندماج واحترام المجتمع الجديد وعاداته وتقاليده. وتؤكد ميسا أن هذا الأمر ليس سهلاً أبداً فهناك نسبة كبيرة من الناس فكرها مشتت دائماً بسبب الوضع في وطنها مما يبطئ التعلم وعملية الاندماج. كما أن الأمر مرتبط أيضاً بالمنطقة التي يسكنها المهاجرون الجدد ومدى تحفظها تجاه الغرباء أو وجود العنصريين فيها.
القادمون الجدد جاؤوا من كل أنحاء سوريا ومن مختلف الخلفيات الثقافية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية، لكن الألماني يتعامل معهم جميعاً بتعميم يتجاهل خصوصياتهم واختلافاتهم، وبالتالي تتفاوت وسائل وإمكانيات اندماجهم، فما رأيك بهذا الوضع؟
تتفق لبنى وميسا على أنه لا يمكن أن ننتظر من الألمان ان يدرسوا طبيعة وخلفيات القادمين الجدد، مبدأ المساواة الاجتماعية يشترط معاملة الجميع بنفس الطريقة، وتشير علياء إلى أن الكثير من الألمان يدركون اختلافات اللاجئين جيداً لكن البعض يعتمدون فقط على الصورة التي يقدمها الإعلام أو التجربة الشخصية. ومن جهته يعتقد أسامة أنه يجب التمييز في التعامل والمتطلبات حسب مستوى تعليم ومهنة كل شخص، وألا يتم تجاهل كل إنجازات الشخص العلمية والمهنية وخبراته طوال حياته والبدء معه من الصفر لأن هذا يسبب الإحباط ويهدر الكفاءات.
- هناك مقارنة مع التجربة التركية، التي يعتبرها البعض تجربة اندماج غير ناجحة، برأيك ما السلبيات التي أدت إلى الانعزال التركي وهل يتجه السوريون لتشكيل كانتونات مشابهة؟
علياء وأسامة يعتبران أن هناك اخطاء سياسية ارتكبت في “بالتجربة التركية” فقد استقدم هؤلاء كعمال ضيوف إلى ألمانيا، التي لم تخطط لاستيبعابهم على المدى الطويل وتعاملت معهم على هذا الأساس، ويصعب قياس التجربة السورية على التركية، لكن خطر تشكل مجتمع موازي داخل المجتمع الألماني قائم. وعلى ألمانيا البحث عن حلول فعالة لمنع ذلك مثل تسهيل حصول اللاجئين على بيوت في أحياء مختلفة وعدم حصرهم في مناطق للأجانب فقط.
وتضيف لبنى على ذلك أن كثيراً من الأتراك لم يكن لديهم الرغبة أو الاستعداد للانخراط في المجتمع لانهم أيضاً اعتبروا إقامتهم في ألمانيا مؤقتة. وكان أغلبهم عمالاً فقراء ومتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم وتدينهم. لكنّ ألمانيا تعلمت من تجربتها تلك وكذلك من تجربة اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين، ولهذا فرضت على الجميع الآن تعلم اللغة والبحث عن عمل.
ولا تعتقد لبنى وميسا أن السوريين مهتمون بتشكيل “غيتو” خاص بهم، بل هم أقدر من من الجاليات الأخرى على الاندماج، وهم معروفون بالطموح والاندفاع تجاه العمل والتطلع للأفضل.
وتشير لبنى وغياث إلى أن العمل الاجتماعي المكثف وتقديم الاستشارات، خاصة للشباب والنساء، وتنظيم الفعاليات الثقافية الموجهة قد تساهم في تفادي التجمعات غير المندمجة. كما يمكن الاستفادة من المهجرين القدامى في توفير الدعم للجدد. ناهيك عن دور المدارس في التوعية والتثقيف.
حوار سعاد عباس
اقرأ/ي أيضاً: