لكنك استوطنت حواسّي هذا الصباح، فتحتُ عينيكَ، أخذتُ نظرتكَ الحادَّة، صار لي شَعركَ وأنفك ونمشُ وجهكْ ضحكتُ ضحكتكَ، حككتُ جلدي عند المعصم تمامًا فوق النَّدبة، شربتُ القهوة بشفتيك، دخنتُ سيجارتك صرتُ دخانك وعلقتُ على ثيابك.
أتتخيّلُ كلَّ هذا! إنّك تعبثُ بذاكرتي.
تلك القُبل التي لم أحظَ بها سرقتُها منّي دون علمِك، ثمَّ استعدتُها جميعها رغمًا عنك، وبقيتُ لساعاتٍ أعبثُ بشفاهي.. أُقبِّلُنِي وأنا أُقَبِلُكْ.
الأحضان التي أنكرتَها عليَّ بحجة أنَّ الوحدة هي شريكتُكَ الوفيَّة والجميلة، انتزعتها منك.
أحدِسُ بما يعتريك وأنت برفقتها.. أقصد ما تجيد إخفاءه من مشاعر كلّما قرأتَ إحدى الرسائل.
كلُّ ذلك لا يجعل منك قويًّا ولا يُظهر ضعفي إذ يكشف عن رغبةٍ لي بك، ولا يمنع أنَّك مرّغتَ وجهكَ على صدري مرارًا في الحلم، في حلمي على الأقل.. وأنت تتفوه بحماقاتٍ فلسفية ونظرياتٍ وجوديَّة لا يمكن لأعظمها أن تصف طعم الكرز في فمك.
تبًا لصمتك..
في وحدتي أستطيعُ فعل كلّ ما أريد، أترى!
كأن أُمشّط شعركَ الطويل وأقفَ أمامكَ كطفلةٍ تتعلّم الهجاء لأطلب منك طلبي الافتراضيَّ المعتاد:
أتشربُ معي القهوة؟
وتقول أنت: “صُبّي”
حسنا، أن نشرب القهوة عبر نافذة فيسبوك هو فعل افتراضي لكن شعوري تلك الظهيرة لم يكن افتراضيًا على الإطلاق..
أذكرُ جيدًا كيف غرقتْ قدماي برمل الشّاطئ، تحسست سخونته، وكدتُ أن أدوس سرطانًا صغيرًا خرج فجأةً من وكره خلال محاولتي التقاط الصورة من الزاوية المناسبة. ارتجفتْ يدي وكأنَّها تماشي خفقان القلب المتسارع بينما حاولتُ تدوين بضع كلماتٍ شوهها جفاف الحبر.
أتعلم؛ كنتُ الوحيدة على الشاطئ يومها باستثناء سيدةٍ نحيفةٍ ورجلٍ أشيب يمشيان بخطواتٍ بطيئةٍ على طول الرصيف المحاذي للشاطئ، وطفل في السابعة تقريبًا يجمع الأصداف والأحجار الملونة، لم ألاحظه إلا بعد أن اقترب مني فوهج الشمس المتدفق بقوّة على المكان منعني من النظر إلا في اتجاهٍ واحد، طويتُ الورقة التي كُتب فيها كلمات بخطٍ متعرج ورميتُ باقة الزهور في البحر بعد أن قدمتها لك على شاشة هاتفي المحمول، ومكثتُ على الرمال أرقبُ الأفق الذي بدأ يتزين بشمسٍ محمرّة.
توقف الصّبيُّ بعد أن جال الشاطئ وملأ كيسًا قماشيًا بأصدافٍ من جميع الأحجام، يراقب حركة الموج المتتابعة، في قذف الورود الطافية وسحبها مجددًا.
ثم ثبَّت نظره باتجاهي، كأنه يسألني بعينين يلتمع فيهما الفضول عن سبب رمي للورود، ابتسمتُ، هز الصبي رأسه وابتسم بدوره، ثم جثا على الرمل قريبًا من مكان تكسر الموج التقط وردةً ودسها في كيس القماش.
في تلك اللحظة ظهرت امرأةٌ قصيرة القامة أومأت للصبيّ ولكنه لم ينتبه، اقتربت منه أكثر نكزته بإصبعها فاستدار، حركت يديها بإشاراتٍ معيّنة وكذلك فعل الصّبي، ابتسم لي مجددًا، ابتسمتُ، وغادرا معًا.
………..
أترى؛ أنت تُفكر كيف تُعيد بناء جدار وحدتك بعدما أسقطتْ رسائلي قرميده، وأنا أركبُ في وحدتي عالمًا منك، كلانا يبني في وحدته ما يريد.
………..
الوحدة تبقينا بمنأى عن الألم، هي خُلاصة علمنا بأنَّ كلَّ شيء هو لا شئ، نطفو بها فوق الأحاسيس جميعها، نُبصرُ بها أنَّ كل ما نراه خدعة.
في الوحدة ندركُ أنَّ الحياة شِباكٌ وكلُّ النداءات ليست سوى طُعم مسموم نبتلعُهُ بنهمٍ كترياق يَمُدّنا بالطاقة لنستطيع الاستمرار في قطع تلك الشٍّباك حتى الخلاص.
هذا ما كنتَ تقوله دائمًا.. دون أن تقوله لكن.. أتظن حقًا أنَّ الوحدة ستنجيك من الشباك!
– بل أصنع منها شباكيَ الخاصة.. على مزاجي يعني.
لكن الوحدة ليست خيارًا، لا خيارت في هذه الحياة.
……….
هات حضنًا كبيرًا
– “عناق”
أعرف أنَّك تبتسم الآن بينما تقرأ هذا..
مواضيع ذات صلة