روز اليوسف
لم يكن قد مضى وقتٌ طويل على بدء المسير، حين تناهى إلى مسامعي ذلك السؤال لأول مرة “من منكم يستطيع التحدث باللغة الإنكليزية؟” بعفوية متناهية رفعت يدي: “أنا”، لم أكن أعلم أنني في تلك اللحظة كنت قد نصّبت نفسي قائدةً لمجموعةٍ من السوريين الغرباء، وأنهم في اللحظة ذاتها قد بايعوني القيادة جميعًا بلا استثناء بكل ما بقي لديهم من أمل في النجاة. لم تكن مفاجأتي كبيرةً حين لم أجد لي منافسًا لقيادة المجموعة وأنا الأكثر دراية بحجم مأساتنا اللغوية، -وكمدرّسة سابقة للغة الإنكليزية في سورية- يمكنني القول أنها أكثر من مأساة بل كارثة بكل المقاييس. لم تكن حصصي المدرسية في الماضي أكثر من عملية جلدٍ وتعذيب نفسي وفكري، وبالطبع لا أستطيع لوم الطلاب فهم قد تحملوا عناء القدوم إلى تلك المدرسة المتهالكة لسنوات، وجلسوا في تلك المقاعد الضيقة متزاحمين ثلاثة -وأحيانًا- أربعة طلاب في مقعدٍ واحد مع حقائبهم ومعاطفهم بأعدادٍ تتجاوز الأربعين طالبًا في الصف، منصتين لما سأقدمه لهم من علوم لغوية، مستعينةً فقط بالسبورة ونصف إصبع من الطبشور.
عادت بي الذاكرة لتستحضر حروبي السابقة مع إدارات المدارس وموجّهي اللغة الإنكليزية، للحصول على بعض الوسائل التعليمية البسيطة، لكنها لم تكن سوى جعجعات فارغة لم أحصل من ورائها على أي نتيجة. لم أكن حالمة أكثر من اللازم، فأنا لم أقل يومًا أنني بحاجة إلى مختبر لغوي خاص والعياذ بالله، كانت طلباتي لا تتجاوز مستوى استرجاع مسجل الكاسيت من بيت نائب المدير، بعد أن أخذه من المدرسة في الصيف قبل الماضي خوفا عليه من السرقة، إلا أنه لم يعد قادرا على إخراجه من غرفة ابنته المراهقة التي أدمنت النوم على آهات هاني شاكر كل ليلة، أوحتى الحصول على بطاقات جديدة للألوان والأحرف، بدل تلك التي مزقها ابن أمينة السر في إحدى زياراته التعفيشية لمكتب والدته. سريعًا عدت من تجلياتي فقد كان لزامًا علي استلام مهامي المصيرية على وجه السرعة فكل دقيقة تمضي هي بالمقابل ساعات من التأخير المرير.
خمسةٌ وأربعون شخصًا، شبان وشابات، أمهات وأطفال وعجائز، كانت مهمتي توجيههم حسب ما يقال لي باللغة الإنكليزية، ونقل التعليمات إليهم بكل دقة ومصداقية، ومن جهةٍ أخرى مساعدة اولئك الذين يعانون من بعض المشاكل في نقل معاناتهم أو احتياجاتهم للمسؤولين الأجانب. فجأة تحولتُ إلى طوقِ نجاة وتحولوا هم بالمقابل إلى عشيرتي. أصبحت المرجع الأعلى لفك رموز ذلك المجهول الذي كنا نسير معًا باتجاهه، في حين لم يبخلوا هم باحتوائي كعائلة، وحمايتي من الشرود إلى مجموعةٍ أخرى فيضلون الطريق من بعدي. لن أستطيع حصر كمّ الاسئلة التي كان يجب علي الحصول على إجاباتٍ شافية لها كلما انتقلنا إلى بلد جديد. كم من الوقت يلزمنا لنصل؟ الى أين سنذهب الآن؟ كم من الوقت ستستغرق رحلة القطار؟ ماذا يجب أن نفعل الآن؟ إلى متى سيستمر المسير؟ متى سنغادر هذا المخيم؟ هل أغلقت الحدود؟! أين نحن الآن؟ والكثير الكثير من الأسئلة التي لم أكن أمتلك لجميعها أجوبة مباشرة، ولم أستطع الحصول على أجوبة شافيه لعدد منها، إما لجهل العناصر المنظمة للغة الإنكليزية أو لنفاذ صبرهم لكثرة السائلين، ورغم ذلك فقد استطعت امتلاك الحد الأدنى من المعرفة لأمحو بها عددا لا بأس به من إشارات الاستفهام تلك. لقد وفرت عليَّ لغة التواصل وإمكانية الحصول على المعلومة الصحيحة في الوقت الصحيح، الكثيرَ من الألم والقلق والتيه الذي كنت أراه في عيون الكثيرين ممن رافقوني في تلك الرحلة، كانت لغتي هي سلاحي في الدفاع عن نفسي وعنهم، وكانت سراجي الذي أزال الكثير من الغموض الذي كان يلفنا. ولكن كل ذلك لم يشفع لي اليوم، أشهرٌ مضت على الوصول وها أنا قد عدت لأكون كغيري من الواصلين وجهًا يملأ التيه عينيه، أمّيةً بعد أن كنت المعلمة والقائدة، مؤلمةٌ هي العودة الى الوراء، البعضُ مازال يبحث عن قائدٍ آخر ولكن ناطق باللغة الألمانية هذه المرة، أما أنا فمنذ أن أعلنت انشقاقي عن الطاعة العمياء لأولياء الأمر منا، عاهدت نفسي بألا أكون تابعًا غافلاً لأي كان مرة أخرى، نعم سأفكك طلاسم هذه اللغة الجديدة مهما كانت عصية وأقود نفسي بنفسي إلى بر الأمان كما سبق وفعلت دائما.
*كاتبة سورية