أبواب- لايبزغ
في أيار (مايو) من العام الماضي (2016)، بدأ معهد ماكس بلانك، الذي يعدّ من أهم مراكز البحث العلمي في العالم، تجربة علمية فريدة من نوعها تهدف لدراسة التغيرات الطارئة على دماغ الإنسان عند اكتساب لغة جديدة، والكشف عن الأليات الأفضل لتعلم اللغات. في بداية التجربة التقت “أبواب” القائمين على المشروع[1] والآن بعد انتهاء المرحلة الأولى من المشروع نتابع تطورات هذا البحث المثير للاهتمام.
بدأ البحث مع 85 مشاركًا، 65 من الذكور و20 فقط من الإناث، توزّعوا على 6 مجموعات، وبدؤوا بتعلم اللغة الألمانية من المستوى الأول A1 وحتى مستوى B1. خلال فترة التعلّم، خضع المشاركون لمجموعة من الاختبارات كالتصوير بالرنين المغناطيسي إضافة لعدد من التجارب القياسية. في ختام المرحلة الأولى تقدّم 62 من المشاركين للامتحان عن طريق معهد غوته، ونجح 40 طالب منهم في جميع أقسام الامتحان (الكتابة، القراءة، السماعي، والمحادثة)، في حين لم يجتز البقية سوى قسم أو قسمين من المطلوب.
مع بداية آذار (مارس) 2017، بدأ الناجحون المرحلة الثانية من المشروع وتستمر حتى منتصف أيلول (سبتمبر) المقبل، وفيها سيدرسون مستوى B2 ثم C1 لتكون لديهم فرصة الدراسة الجامعية مع بداية العام الدراسي القادم.
وعن المرحلة الثانية، يقول المشرف على دورات اللغة في المعهد (ماتياس شفيندمان): “إن قياس نسبة النجاح يتوقف على مفهوم النجاح نفسه، فمعظم المشاركين تطورت قدراتهم اللغوية بشكل إيجابي انعكس على حياتهم اليومية. إنهم الآن يعتمدون على أنفسهم في البحث عن سكن أو مكان للتدريب أو يذهبون مثلاً إلى الـ (جوب سنتر) دون مترجم، وهم أصبحوا جزءًا من هذا المجتمع، وبدؤوا ببناء حياتهم المستقبلية هنا”.
وبالنسبة للصعوبات التي واجهت تقدم المشروع يقول السيد شفيندمان: “واجهنا ضغوطات كبيرة حقيقة، في تنظيم الوقت والمواعيد، واتخاذ القرارات الفورية، وكثيرًا ما بقي الباحثون يعملون في المعهد أيامًا طويلة دون استراحات، ولكن رغم كل شي أعتقد أننا قمنا بوظيفتنا بشكل إيجابي”.
سامر قصاب أحد الطلاب السوريين المشاركين في التجربة، تحدّث لأبواب عن مشاركته بالقول: “أنا سعيد جدًا بانضمامي لهذه التجربة التي قدمت لي فرصة مهمة في تعلم اللغة الألمانية، رغم أنني كنت أخشى في البداية أن يتم التركيز فقط على الاختبارات العلمية، وتبين لاحقًا أن الاهتمام بالتجربة انعكس على الاهتمام بالطلاب ورفع مستواهم اللغوي بكافة الطرق والوسائل، مما أثر إيجابيًا على مستوانا اللغوي وسط أجواء متميزة”.
وعن نتائج المرحلة الأولى على الصعيد العلمي قال الدكتور (ألفريد أنفاندر) أحد الباحثين المشاركين في المشروع: “رصدنا تغيرات في الدماغ عند تعلم المشاركين للّغة، فقد تم إجراء التصوير أحيانًا والدماغ في حالة نشطة، حيث يفكّر المشارك ويستمع لأسئلة ويجيب عنها باللغة الألمانية، وذلك للكشف عن الأماكن النشطة في الدماغ عند تمرير الكلام ومعالجة اللغة والتفاهم”. وردًّا على سؤال حول علاقة المستوى التحصيلي للطلبة بمدى هذه التغيرات أجاب: “لم نقيّم هذا حتى الآن. لقد لاحظنا فقط أن هناك تغيرات، ولدينا نتائج الاختبار مع معهد غوته، وطبعًا هناك تفاوت في مستويات الطلاب، بعضهم جيد في المحادثة أو أفضل في الاستماع، ولكن ربط هذه المستويات بتغيرات الدماغ معقد جدًا، وليست لدينا نتائج حتى الآن لكننا نبحث في هذا. جرى سابقًا البحث في كيفية تعلم الأطفال للغة، ولكنها المرة الأولى التي تجرى فيها التجربة على البالغين، وهذا شيء مهم جدًا ويفيد في تعلّم الإنسان عدة لغات”.
الدكتور (توماش غوشيه) المشرف العلمي أكّد أهمية البحث وعبّر عن تفاؤله: “جمعنا بيانات مهمة حتى الآن، تفيد في كيفية اكتساب اللغة الثانية، ونحن واثقون أن النتائج ستكون مهمة لكثير من العلوم العصبية والمجالات العلمية المرتبطة”.
رغم أن فرضية البحث تضمّنت بداية أن ستة أشهر كافية للوصول إلى النتيجة العلمية المرجوة، إلا أن المعهد الآن يستكملها لستة أشهر إضافية وقد أوضح د. توماش السبب قائلاً: “تجاوز المشاركون المرحلة الأولى بنجاح، ولكن وجدنا أن العديد من الهياكل المعقدة للغة الألمانية تكمن في مستويات B2 وC1، حيث يتم تعميق المفردات، وبالتالي رصد تطورات اكتساب اللغة في هذه المرحلة يشكّل فرصة علمية عظيمة، نستطيع خلالها رصد تطور اللغة من مرحلة مبكرة إلى مراحل أكثر تقدمًا، وهذا جيد طالما أن الفرصة متاحة لمواصلة العمل مع العديد من الطلاب، عدا عن أنها فرصة جيدة لهم للوصول إلى مستوى C1 وبهذا تعود الفائدة على الجميع”.
يجري الطلاب بعض الاختبارات العلمية القياسية على الكمبيوتر، كما يجيبون على استبيانات اجتماعية ونفسية، ويشرف على هذا الموضوع الباحث (مارتين ليسانيك)، الذي شرح أهميتها بالقول: “لا تقل هذه الاختبارات أهمية عن التصوير المغناطيسي الذي يرينا ما يحدث من تغيرات في الدماغ. من خلال هذه الاختبارات نرصد السلوك والذاكرة والانتباه، ونبحث في أنواع الذكاء المختلفة لجمع المعلومات عن العوامل الأهم والأكثر تأثيرًا في تعلم لغة ثانية”. وعن الصعوبات التي تواجه عمله قال: “العمل كثير في هذه الاختبارات ويحتاج للدقة والتنظيم. ننسق مواعيد تناسب الطلاب ليقوموا بالاختبارات بعد أوقات الكورس، ولكن نواجه صعوبات أيضًا عندما لا يأخذ بعضهم الأمر على محمل الجد، ويجيب بطريقة سريعة وغير دقيقة على الاستبيان، ويسعدني أن بينهم من هو متحمس للمساعدة ويستجيب بطريقة جيدة”. جدير بالذكر أن مارتين نفسه لديه تجربة لافته في تعلم اللغة الألمانية، فهو من جمهورية سلوفاكيا، وقد تعلّم الألمانية منذ سن العاشرة، ولشغفه في موضوع تعلم اللغات الأجنبية، قدم دراسته للماجستير في كندا حول التغيرات الطارئة على الإنسان عند تعلم اللغة الألمانية، وهو يكمل مشروع الدكتوراه الآن مع معهد ماكس بلانك في الدارسة ذاتها.
الطالبة ريم نجمة عبّرت عن سعادتها بالتجربة. تقول: “إنها خطوة رائعة لبناء مستقبلي في ألمانيا. اجتزت المرحلة الأولى B1 بفضل المعهد وطاقم التدريس المميز، والآن أتواصل مع المجتمع المحيط بشكل جيد واستطعت تكوين صداقات مع عرب وألمان. لم أشعر بالغربة، وأنا متحمسة لأكمل المرحلة الثانية كي أتمكن بعدها من الدارسة في الجامعة”. يوافقها الرأي زميلها محمد عساف: “استفدنا كثيرًا من وسائل الإيضاح والتقنيات المتطورة في المعهد، وهذا غير متوفر في مدارس اللغة الأخرى، وكذلك الدروس الإضافية التي تنظم خارج أوقات الدوام والتي تعزّز المعلومات التي نتلقاها في الدورة”.
في المقابل لم تكن تجربة بعض الطلبة موفقة، ومنهم معاذ: “كانت بداية الكورس جيدة جدًا، وتلقينا منذ البداية معاملة راقية ومحترمة من قبل جميع العاملين في المعهد، ولكنني لمست تغيرًا بعد شهرين وبدأت أشعر بشيء من التمييز من قبل بعض المعلمين وتفضيلهم لطلاب عن غيرهم”. ويضيف معاذ: “هناك زملاء لم أكن على توافق معهم مما خفف من انسجامي مع المجموعة، بالإضافة لهذا لم أحظ مع زملائي الذين لم يجتازوا الامتحان كاملاً بفرصة إعادة الأقسام التي رسبنا فيها، والآن لا نكمل الدراسة مع التجربة، كما أن البعض لا تسمح ظروفهم بالمتابعة حتى مستوى C1 لأنهم بحاجة للعمل أو الأوسبيلدونغ”.
حول هذه النقطة علّق السيد شفيندمان: “من المؤسف أن البعض لم يجتز الامتحان ولن يكملوا التجربة، لكننا سنبقى مهتمين بمساعدتهم، فالمعهد مفتوح دومًا لهم ويمكنهم الاستفادة من المكتبة والكومبيوتر فيها، عدا عن إمكانية اشتراك الجميع في أنشطة إضافية كدورة المحادثة والدورة التأهيلية التي تعلمهم كيفية كتابة سيراتهم الذاتية، تحت إشراف (يوليا شتيكرار) وهي موظفة تعمل لمدينة لايبزيغ، وبمساعدة نينا وسوزانا المساعدتين في المشروع”. ويضيف: “من حسن الحظ أن لدينا فريق ناجح حيث يعمل أكثر من 30 شخص في هذا المشروع، ونحن سعداء بمساعدة الطلاب الجدد في البدء بحياتهم الجديدة بألمانيا، عن طريق تعليمهم اللغة التي تعتبر أهم وسيلة للمشاركة الفعالة والاستقلال بحياتهم”.
——————–
[1] معهد “ماكس بلانك”: دراسة الدماغ عبر تعلّم الألمانية. أبواب، العدد 8