نيرمينة الرفاعي | روائية أردنية
بربطة الخبز التي يحملها الناس لبعضهم كهدية، والحواجز المغلقة بالمتاريس، تبدأ ” أرض مائدة ” التي صدرت في العام 2014 عن بيت المواطن للنشر والتوزيع وحملت الكتاب رقم 10 ضمن سلسلة “شهادات سورية”.
يبدو الزمن في الكتاب متشظّيًا لدرجة كبيرة، فعودة إلى القبعة والكنزات العسكرية في المدرسة وغناء “للبعث يا طلائع، للنصر يا طلائع” وصولاً إلى بدايات الثورة وقصة باسل شحادة ورزان زيتونة وليس انتهاءً بالوقوع في قبضة الكتائب المتطرفة، هذا الزمن الكافي لتميد الأرض تحت أقدام الجميع.
عن تذبذب الحياة للناس العاديين، عن قَسَمٍ يبدأ بـ “أبايعك على السمع والطاعة، في العسر واليسر” يحوّل المواطنين إلى مقاتلين وأمراء في جبهة النصرة، بمعرفتهم المسبقة بالبنادق والأسلحة والتي تلقوا كيفية استخدامها في دروس التربية العسكرية في المرحلة الإعدادية والثانوية، ثم الانسحاب مجددًا تحت وطأة الشعور بأنَّ حمل السلاح داخل منطقة محررة من حكم الأسد تعني تشبيحًا من نوع آخر، ومحاولات ترك القتال والعودة إلى الحياة “الطبيعية” قدر المستطاع.
وفي خضم الفوضى والفراغ الأمني، لم يتوان الشعب عن توثيق الانتهاكات وتقديم المعونات الخدمية لبعضهم البعض لمواجهة الحصار الذي يفرضه النظام.
تباينت شعارات الحواجز أيضًا بتطرف بين “سوريا الأسد” إلى “لا يمكنك الدخول قبل موافقة الأمير”. وتحولّت عبارات طبيعية مثل:”انتبه، أمامك مطبّ” إلى “انتبه، أمامك هاون”! وبين الهاون والهاون تستمر ضحى حسن بلغتها التوثيقية المتينة بسرد تفاصيل الوجوه والكلمات المبعثرة، وما يتعرض له الناس من انتهاكات يومية، وتهبّ نفحة أمل كلَّ بضعة صفحات لتعيد شيئًا من التوازن للقارئ الذي لا يمكن أن يمرّ على الكلمات دون أن يغوص عميقًا في أساها.
تتكلم ضحى عن الإنسان أولاً، عن الاعتقالات على الخلفيات الإسلامية والشيوعية والثورية على حد سواء امتدادًا من الثمانينات وحتى اليوم. تعود قليلاً إلى الوراء، إلى مهزلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة المحسومة مسبقًا، تصف في الصفحة 60 حال معظم الناس وهم يقومون بتصرفات متوترة قبل الانتخاب على شاكلة: “يد في جيبه والأخرى تشقلب سيجارة نصف محترقة بين أصابعه، يضعها في فمه، يشعلها، يلقي بها، يهشمها بقدمه، يوقف سيارة أجرة، ويدخل نصف جسده”!
تعود مجددًا إلى الزمن الماضي لتحكي عن زمن حافظ الأسد، ولكن هذه المرّة عن طريق صورته الموضوعة فوق المكاتب وفي المؤسسات وفوق واجهات المباني، صورة صارمة ورسمية تفرض على الناظر عليها سلطة غامضة فوقية. بعيدًا عن الكتاب، وفي هذه النقطة تحديدًا لا أعلم لم أتذكر جيدًّا الدفاتر المدرسية في سوريا، والتي كانت تحمل صورة حافظ الأسد، أما صديقتي العراقية آنذاك فقد أرتني دفاتر تحمل صورة صدام حسين، ولست بصدد مقارنة طاغيتين بالتأكيد ولا تفضيل مجرمٍ على مجرم، ولكنَّ صور صدام ترواحت بين صورته الرسمية وصورته وهو يكتب أو يضحك، على عكس صور حافظ الذي بدا مجرد صنم بارد لا يمارس أي نشاط إنساني سوى “البحلقة” على أغلفة الدفاتر للتأكد من إخلاص الطلبة لاسمه الخالد.
عودة إلى ضحى حسن، التي تختار الكلمات بعاطفة متذبذبة بين الأمل واليأس، وتعمل على جمع ثنايا الذاكرات الفردية لتكوّن صورة جمعية شاملة دون إهمال للتفاصيل، وتتجاوز الأشياء دلالاتها الرمزية لتعود إلى بدائيتها البسيطة، فمصطلح “الموت جوعًا” مثلاً يعني نفسه بحرفية، ففي حصار مخيم اليرموك عام 2014 مات الناس جوعًا، وأكل من تبقى منهم على قيد الحياة قطط الشوارع والصبّار. تمتد ضحى زمانيًا مرّة أخرى وتشكّل من كلّ ما يحصل دائرة تربط ثورات بلاد الربيع العربي ببعضها البعض، وتصفه بالاستيقاظ الذي قد يكون جزءًا من الكابوس، الأمور ترتبط ببعضها البعض مجددًا كدوائر مغلقة حين تنتقل ضحى في سردها بين البحث عن قبور تقع ضمن دائرة الأماكن التي يستطيع الناس الوصول إليها، والفلسطينيين وأوراقهم الصعبة، ووقوف “اللاجئين” على حدود لبنان، والألحان العرائسية، واللطميات التي ملأت شوارع دمشق.
في الثورات؛ تختلط فكرة الموت بفكرة الحياة والولادة من جديد، إلًا أن المخاض وفقًا لرؤية ضحى لم ينتهِ بعد.
تقول في الصفحة 90: “هذه الذاكرة هي جواز سفري وهويتي الدائمة”، أعتقد أنَّها في الكتاب وثقت ذاكرتها بأفضل ما يكون.
سأعيد في النهاية صياغة جملة في الصفحة 35 لأجعلها سؤالاً يجب عدم نسيان جوابه النافي:
“هل إلغاء التدريب العسكري ومادة القومية وحذف “منجزات آل الأسد” من مادة التاريخ يكفي لبناء سوريا جديدة”؟ وأضيف عليه: هل من الممكن بناء البلاد الجديدة وسط هذا الرعب الذي لخصته ضحى في صفحة 137 بجملة واحدة: “الاعتياد على الدم”!