نيرمينة الرفاعي | روائية أردنية
إلى ابنتها التي لم تأت بعد، هكذا ابتدأت هنادي زحلوط كتابها ” إلى ابنتي ” والصادر عن بيت المواطن للنشر والتوزيع وبدعم من جمعية “مبادرة من أجل سوريا جديدة” من باريس.
وحمل الرقم 2 في سلسلة شهادات سورية، وصدر عام 2014. بإمكانك كقارئ في بداية الكتاب أن تشعر بنسمة هواء باردة على وجهك، نسمة مصدرها المكيّف الموجود في غرفة التحقيق حيث توجه الأسئلة إلى “هنادي”، المتخفية وقتها باسم “هيام” بطريقة تجعل الظرف المكاني الأوّل للقصة يمتد ليطالك فتدخل إلى حيزها رغمًا عنك، وفي منفردة عرضها متران ونصف وطولها متران تبدأ الحكاية، لتجد هنادي نفسها في غرفة باردة مظلمة وتميل إلى الالتصاق بجسدها أكثر، تستشعر رائحته، تحسس عظامه التي تحتك بالجدران وراء ظهرها، وترتجف وراء قميصها الزهري المبتل وهي تعدُّ الأيام..
تتدهور صحتها بسرعة، تتلقى أبر مسكن من الطبيب، ولا ينفع شيء في التخفيف عنها وسط أصوات الأجساد التي تُركل وتُجرُّ في الممرات ثم تُلقى وراء القضبان..
وعودة لطرق التواصل البدائية الأولى، ينجح المعتقلون في ابتكار الطرق للتواصل فيما بينهم، بالإيماءات والحروف المتقطعة على ثقوب طاقات الزنازين، يتناقلون أخبار استشهاد زملائهم، أماكن سكنهم، يتحدثون عن عائلاتهم ومن لهم من أحباب خارج هذه الظلمة، يبكون ويبتسمون ويرفعون أصواتهم في وجه السجّانين من أجل الحصول على قطعة جبن مثلثات أبو الولد أو حبّة بطاطا غير فاسدة..
ويبقى تفاؤل هنادي هو الأكثر طغيانًا على المشهد، فحتى في وسط كوابيسها ترى السجن كرحم الأم، كالظلمة الأولى التي تنتظر أن تولد منها إلى النور!
وعلى الرغم من أنَّ المنفردة قد تصنّف على الدرجات الأولى من سلّم التعذيب، فالقانون الدولي بدأ بتحركاته الجدّية من سنين لمقاومة “الحبس الانفرادي لما يسببه من كآبة مزمنة وفقدان للشعور بالزمن والاتجاهات وفقدان للهوية، إلّا أن انضمام “ملك”، رفيقة “هيام”، لها في سجنها قد كان أشدُّ وطأة وتعذيبًا بكل ما حملته معها من أخبار سيئة لما يدور على أرض سوريا خارج المعتقل، وتكتشفُ هنادي أن سوريا نفسها معتقلٌ كبير يتعرض الناس فيه لمختلف أنواع التعذيب!
أيعلم القانون الدولي يا ترى بما يحصل في سوريا، وسجونها؟
وعلى الرغم من أن غالبية أدب السجون تتناول السجّان على أنَّه المجرم الأكبر إلّا أن الكاتبة هنا تحدثت بإنسانية لم تفقدها رغم كل ما نالته من تعذيب على أيديهم، فتصف العنصر في الصفحة 7 بـ”العنصر المسكين”، ثم تنقل قول عنصر آخر في الصفحة 37 وهو يشكي قائلاً: “نحنا محبوسين هون متلكين، بس الفرق أنه نحنا مناكل برّا.. وانتو جوّا”!
بعد شهرين من الاعتقال، تتحوّل “هيام” إلى المحاكمة، وفي القصر العدلي تقف بتهمتها: “التظاهر”، بينها وبين الشمس بابٌ واحد، ولكنَّ القاضي أبى أن يفتحه لها، وحوّلها إلى سجن عدرا الذي توجهت إليه بوجهٍ دامٍ من كثرة ما ضُرب، وإشارة نصر مازالت قادرة على رفعها بأصابعها من وراء شبّاك الباص!
الجدران بيض، القضبان سود، الأبواب صفر، الأسرّة حديدية، البصل أخضر للفطور، والفاصولياء والبرغل للغداء، ولم يتبق شيء من أقلام الكحلة وحمرة الخدود التي صودرت قبل الدخول، هكذا تصفُ زحلوط السجن الذي ترقص فتياته قبل النوم بحكم العادة، لا بحكم الفرح..
بين كؤوس الزهورات وأرض السجن التي تبدو مستعصية على التنظيف وصراخ السجينات وشجارهنَّ تمضي الأيام وهي تحاول الاحتفاظ بمعنوياتها مرتفعة رغم أوامر العقيد التي نصّت على نقلها إلى “تحت”.. من يعلمُ يا ترى أنَّ “تحت” في سوريا تعني عالمًا سفليًا مخيفًا تبتلع وحوشه من بداخله !”تحت”، مكان مظلم فيه ستّة فتيات، إحداهنَّ “طلّ الملوحي” التي تمسكت بيد هنادي وهي تسألها: “شو عم يحكوا الناس عليّ؟ هنن بيعرفوا إني بريئة”؟ وخلال وجودها “تحت”، يصلها خبر موت أبيها، والأوكسجين في قفصها المزدحم يضيق أكثر فأكثر، وفجأة تجد نفسها “فوق”، خارج القضبان، أمام عملها الذي فُصلت منه بسبب “غيابها”، ولكنَّها سرعان ما تجد نفسها مجددًا في فرع المخابرات الجوّية وبعدها في سجن المزّة العسكري.. هي في البلاد التي تتقاذف أبناءها بين تحت وفوق ببساطة موغلة في وحشيتها!
الكثير من أخبار الاعتقالات والاستشهادات مرّت أمام عينيها، “عيونك هدول بشلّك ياهن وليييك”! هكذا أطلق عنصر الأمن تهديداته في وجهها في اعتقالها الأوّل، ولكنَّها فتحت عينيها أخيرًا على نور بلادٍ لم تكن بلادها بعد خروجها من معتقلها الأخير، فهي استطاعت أخيرًا الوصول إلى باريس.
هل التظاهر تهمة؟ هل يتكلم الناسُ بالسوء عليها الآن؟ هل يعرفون أنَّها بريئة؟
سأجيبها، أنا القارئة البعيدة، بنفس الجواب الذي أجابته هي لطلّ الملوحي: “كل الناس بتعرف، الشمس ما بتتغطى بغربال”!
في الصفحة 54 تصفُ زحلوط طفلاً يركض بين الممرات في سجن عدرا دون أن تفهم سبب وجوده أصلاً، والنساء كلهنَّ يقبلنه وكأنَّه ابنهنَّ جميعًا، وكلهنَّ يضربنه أيضًا وكأنه ابنهنَّ جميعًا.. ما أشبه البلاد بهذا الطفل، ينالُ القبل والصفعات ويبقى طفلاً يركضُ ضاحكًا على الرغم من كل شيء!، واثقًا في قدرته على الوقوف على قدميه ذات يوم قريب، وحتى ذلك اليوم يرّن في الصدى سؤال الكاتبة الذي طرحته في الصفحة 81 بقلق وخوف: “كيف نخمدُ نار الرصاص؟ كيف”؟