فرح يوسف.
سنة 2008 دخلنا منزلنا للمرة الأولى، وفي الحال كرهت كلّ شيء فيه. مقارنة بمنزلنا كانت الأسقف منخفضة، توزيع الغرف كان غبيًّا، وكان صغيًرًا على حساب حديقة كبيرة تسوّره من كل الأطراف، وحين تخرج من المطبخ ينتصب في وجهك حائط بطول البناء، وحين تقف أمام هذا الحائط شيء ما يُطبق على صدرك.
هدوء الحي المستفز يزيد الأمر سوءًا، ناهيك عن جارنا: فرع الأمن الجوي، ثمّ أن أبوابه مطلية بالأبيض، من يطلي أبوابًا بالأبيض؟ والإيجابية الوحيدة لهذا المنزل كانت قطة زيتونية اللون، استوطنت الحديقة، وأنجبت لنا سربًا كاملاً من السعادة.
لم تتغير مشاعري تجاه هذا المنزل يومًا، ولم أفهم أبدًا سبب الارتفاع الفاحش في الأسعار هنا، الشيء الوحيد الذي تغيّر أن هذا الحائط اللعين بات مصدرًا للحسد، فهو درع بطول البناء، مضاد للرصاص والقذائف التي باتت جزءً من حياتنا اليومية، أو أننا اعتقدنا هكذا.
أختي وأنا كنا قد حولنا المطبخ إلى غرفة اجتماعات، والوقت كان صباحًا من صباحات الـ 2014، اللابتوب أمامنا على الطاولة مع كؤوس الشاي، رغم أنني لا أحب الشاي، وهدوء الحي يكسره “الضرب” والاشتباكات المستمرة، ولم تكن هذه الأصوات قادرة على انتزاع أي رد فعل أو استهجان منا.
كنا جالستين والباب المؤدي إلى الحديقة كان واقفًا مكانه، ثمّ لا أدري كيف أصبح على الطاولة أمامنا، والإسمنت الذي كان يثبته في مكانه اقتحم رئتينا بهيئة غبار، وبحركة واحدة قبضت أختي على ذراعي وأصبحنا خارج المطبخ.
احتضنتني، انفككنا عن بعضنا، نظرت إحدانا إلى الأخرى، في إحصاء سريع للأذرع والسيقان والأعين وأية فتحات يتسرب منها الدم، ثمّ نوبة من الضحك اجتاحتنا.
رحنا نضحك كأي مصابتين بالهستيريا، ولا أعتقد أنّ هذا أمر مستبعد عن أي أحد أمضى ثلث عمره في الحرب، إن الضحك هنا ليس مرتبطًا بالسعادة أو التعاسة، قد يكون رد فعل بديل عن الانهيار الذي لا نملك رفاهيته، وقد يكون الجدار الذي يبقينا مسنودين وقادرين على أن نسند.
ولا يمتد هذا النوع من الضحك على موجة تنحدر حتى تختفي، إنه يستمر بالوتيرة العصبية ذاتها ولا يتخلله حتى نَفَس أو شهقة، يستمر حتى تتذكر أن ليس بإمكانك الاستمرار بالهروب إلى هذه المساحة من الضحك، فينقطع فجأة مخلّفًا لحظات قليلة تمتد دهرًا من الصمت الثقيل، ويعقبها ما يقفز إلى ذهنك أولاً من فجائع.
تجمّدت أختي في مكانها وصرخت “القطط”.
ركضتْ مسرعة إلى حديقة المنزل، ولمن يعرف الوضع في حلب تستطيع أن تفهم مدى خطورة الخروج عقب سقوط قذيفة، فالثانية ستعقبها حتمًا، لكنها خرجت، وتبعتها كالمخدّرة على سجادة بطول المطبخ من الزجاج والشظايا.
المنظر في الخارج كان.. كان.. لا أدري كيف كان، كان كما يكون المنظر عقب سقوط قذيفة على منزلك، والأرض كانت مكسوّة ببرك حمراء، وأصبنا بشلل كامل للحظات، لا يمكنك أن تتخيل الماراثون الذي جرت فيه أعيننا بحثًا عن قطتنا وأولادها، إنهم الأفراد الأحرار في عائلتنا، الذين لم نستطع إجبارهم على البقاء داخل المنزل، حيث الأمان!
أيقظتنا ستة أزواج من العيون، تبرق مختبئة في زاوية حوض الزرع، وتنفسنا.
حسنٌ، إن هذا ليس دمًا، كما أدركنا حين رأينا ثلاجة الحديقة مفتوحة، وقد طارت رفوفها ومحتوياتها، بما فيها “مونة دبس البندورة”.
بدأت كل الهواتف في الرنين، والاطمئنان على حجم الأضرار، لا أدري لماذا يتصل الناس، خاصة المهاجرون منهم، ماذا لو قلت لهم أن أحدًا هنا مات؟ سيعزونك؟ لو أخبرتهم أن أحدًا علق تحت أنقاض شيء ما هل سيأتون لمساعدتك في انتشاله؟ مجروحون، منهارون، مصابون باضطراب ما بعد الصدمة، هذه إجاباتنا وأنت على الطرف الآخر من الهاتف، ماذا ستفعل؟ لا تتصل إذًا وتربكنا بالمجاملات.
ثمّ بدأ جرس الباب بالرنين، هذا النوع من الرنين مشروع حين تسكن في الطابق الأرضي، ينزلون إما بحثًا عن ملجأ آمن، نسبيًا بالطبع، أو كما حدث في ذلك اليوم حيث كان الجيران يريدون أبجوراتهم ونوافذهم التي طارت وحطّت في حديقتنا.
لا أضرار يومها في الحقيقة لمن لا يعتبر الضرر النفسي والمادي ضررًا.
هبطت القذيفة التالية في الشارع الخلفي، بإمكاننا الآن أن نبدأ حملة التنظيف، عليك أن تجمع القطع الأكبر من الزجاج والشظايا، ثمّ تنتقل للقطع الأصغر حجمًا، ارتداء حذائك الرياضي المفضل ليس قرارًا حكيمًا، الماركات العالمية لم تصمم أحذيتها للسير على الزجاج المكسّر كلاعبي السيرك، ومخطئ أنت إن ظننت أن الحرب لم تترك فيك متسعًا للحزن على شقّ في حذائك الرياضي المفضل، وتسارع لتتصل بالنجار والحداد ومصلح النوافذ، وكلّهم قياصرة، تسأل لماذا، ألم يعلموك أنّ إحدى تداعيات الحرب هي هجرة اليد العاملة؟ لقد “طفشوا” من الحرب وأسيادها، والمنطقة خطرة، فعليك أن تتولى معظم التصليحات.
تدخل أمي المنزل ونحن في المرحلة الثانية من التنظيف، لا تريد أن تفكر بما كان يمكن أن يحصل، تشرع في التنظيف لتبعد ذهنها عمّا حصل، ولا تتكلم كثيرًا، حتى أنها لا تعطي التعليمات.
لا يمكنك أن ترفع إصبعًا بعد أن تنتهي من التنظيف، إنك الآن منهك جسديًا بالكامل، تنقّي شذرات الزجاج الدقيقة من يديك وتتلهّى عن التفكير، يساعدك فنجان كبير من القهوة في مسعاك، نجلس جميعًا صامتين وكئيبين ولا أحد يتحدث عمّا حصل، أو عمّا سيحصل، إنه اتفاق ضمني، في الحرب هناك الكثير من الاتفاقات الضمنية، لا يمكنك أن تستمر دونها ولا أحد يعترف بها باللفظ الصريح.
مساءً، احتضنتني أمي كأنها تبتهل لكل آلهة الأرض ألا ينقضي هذا العناق.
لا يمكنني أن أصف أكثر من ذلك، فقط حاول أن تتخيل ما حصل، إنّ ما حصل هو انهيار وهم الأمان الذي كنا نتمترس خلفه في منزلنا، وتلك القذيفة كانت متاع الخوف الذي استوطن بيتنا أبدًا بعدها، على الأقل حتى المرة التالية.
مواد من مدونة المرأة للكاتبة: