فادي حولي. صحافي سوري
قصص الانتظار والحلول البديلة للعشّاق في دمشق الحزينة!
دمشق، ككلّ المدن التي كسرتها الحرب، تحتضنُ أبناءها رغم الألم، تصبّرهم على بلواهم، تذكّرهم بألف بيت من الشِعر قيل في عشق أجدادهم لجدّاتهم. تقول المدينة الحزينة لزهراتها العطشانة: الشوق فصلٌ من فصول الحبّ والربيع قادم لا محالة مهما طال الشتاء.
“أذكر حين كنت أخرج من مدرسة القدس الثانوية في دمشق، فأراه واقفاً بخجلٍ عند إحدى الزوايا. يمشي أمامي وأتبعه خشية أن يرانا أحد ويسرّب خبر علاقتنا فنخسرها. أمّا اليوم وبعد 14 عاماً على خروجي من القدس، ذهب كلّ شيء وبقي الانتظار.” تقول فاطمة (31 عاماً) لأبواب.
لم تكن الحرب السورية سبباً في موت وهجرة الملايين فحسب، ولكن فاجعة على كلّ المستويات بما فيها “الهامشي” رغم إيلامهِ وجدّيتهِ. وواحدةً من أكثر هذه القضايا “الهامشية” إلحاحاً؛ قضية نهاية وانهيار مئات الآلاف من العلاقات بين العشّاق بسبب الحرب والهجرة وغيرها من المواجع التي عايشها السوريون في آخر عقد من الزمن. فما هي قصص هؤلاء الضحايا/العشّاق “الهامشيين”؟ وكيف يتعايشون اليوم رغم الفراق؟ وما هي القصص التي يسطّرها الجيل الجديد في دمشق وبأيّة سُبل؟
حياةٌ رهن الانتظار
تنتظر فاطمة، مدرسة للغة الإنكليزية، منذ ثمانية أعوامٍ حبيبها أسامة الذي “اختفى فجأة” على طريق حمص دمشق دون أن تسمع طيلة تلك الفترة خبراً واحداً عنه، تقول: “إنّ أشدّ ما آلمني في الأمر أنّه لم يتسنّ لي أن أودّعه، أن أعانقه عناقاً أخيراً، لقد اختفى فجأةً مثل فصّ ملح وذاب”.
وتضيف: ” قبل أن يختفي أسامة كنا نحضّر معاً لزفافنا في 14 شباط 2013 تيمّناً بعيد الحبّ، أستأجرنا منزلاً وفرشناه، واشترى لي الذهب رغم ضيق الحال، وكنا سعيدين للغاية لأنّ حلم صبانا سيتحقّق أخيراً”.
تعيش فاطمة حياتها يوماً بيوم بلا مخطّطات أو تطلّعات معيّنة على أمل أن يعود أسامة ويكون كلّ ما مرّ مجرّد “كابوس طويل” يمكن لها أن تنساه وتبدأ من جديد ما كانت تحلم، تقول: ” بادئ الأمر، في أوّل سنتين تقريباً، كنت أستيقظ على هاجس عودتهِ فجأةً كما ذهب، وبين الصحوة والنوم أشعر بذلك الأسى الذي أبتدئ معه نهاري وأنهي معه آخر لحظات يقظتي لأصحو عليه من جديد. أمّا اليوم فبت أقلّ أملاً بعودتهِ، ولكن دون أن يغيّر ذلك شيئاً من إحباطي وعدم قدرتي على التخطيط لبداية جديدة”.
توقفي عن انتظاري…
أمّا نور (35 عاماً)، وعلى الرغم من كونها لم تفقد الأمل من عودة خطيبها عبد الله، إلّا أنّ علاقتهما آخذةً بالتدهور يوماً بعد يوم، تقول نور، نازحة من دير الزور إلى دمشق، لأبواب: ” لقد نزحت عائلتانا بعد دخول داعش إلى الدير عام 2015، كنا مقبلَينِ على الزواج لو أنّ ما حدث لم يحدث، قال إنّه سيذهب إلى تركيا لسنتين أو ثلاث ريثما تهدأ الحرب ويصير بإمكاننا العودة إلى الدير من جهة، ومن جهة أخرى يكون قد عمِل وادخر بعض الأموال لتساعدنا على فتحِ مشروع هنا في الشام إذا لم نتمكّن من العودة إلى الدير”.
وهذا ما لم يحدث حيث بقي عبد الله في تركيا لأنّ شيئاً لم يتغيّر في حال البلاد ما اضطرّه للبحث عن عيشٍ أفضل في المكان الذي يعيش فيه، بينما بقيت علاقة الشريكين معلقة، فلا نور تستطيع السفر، ولا عبد الله يستطيع العودة: “لم يوفق عبد الله في سفره كما كان مخططاً، فظروف العيش في تركيا، وصعوبة العمل فيها جعلته غير قادر إلا على تحصيل قوت يومه إلى جانب مبلغ قليل من المال يرسله إلى عائلته في دمشق، بعد أن ترّدت أحوالهم المادية في ظلّ الغلاء والانهيار الاقتصادي في البلاد”.
لم يعد عبد الله قادراً على تقديم وعود جديدة لنور، فالمال الذي يجنيه في عملهِ في مطعم للحلويات “لا يكفي لشراء خاتم زواج حتّى، فما بالك ببناء أسرة”، وتضيف: “لا يكفينا المال الذي نملك لعيش حياة كريمة في سوريا أو تركيا، ومع أن عبد الله صارحني بهذه الحقيقة وطلب مني الكفّ عن انتظاره، إلا أنّي ما زلت مصرّة على الانتظار ورفض الرجال الذين يتقدّمون لخطبتي، أدرك أن فرص نجاح علاقتنا محدوّدة، لكن شيئاً ما في داخلي يجبرني على رفض كلّ رجل سواه”.
المساكنة كحلّ بديل
بينما آثرت بعض الفتيات انتظار عشاقهن سنيناً كاملة، أدركت غزل (23 عاماً) ابنة محافظة السويداء، والتي قصدت دمشق لإتمام تعليمها الجامعي أن لا سبيل لها ولحبيبها زيد في بناء أسرة في المستقبل القريب، تقول: “قرّرت وزيد أن نستأجر منزلاً للعيش معاً بعد انتقالنا إلى دمشق، وكان هذا الانتقال بمثابة انفراج بالنسبة لنا، فزيد طالب جامعي مثلي لا يستطيع تحمل تكاليف الزواج، والناس في قريتنا كثيرو الكلام، وكلامهم عنا كان يضطرّنا إلى الاختباء والتواري عن عيونهم للقاء بعضنا البعض”.
يرى زيد أن علاقته وغزل ستكلّل بزواج عاجلاً أم آجلاً، لكنّه على الجهة الأخرى يدرك أنّ الانهيار الاقتصادي في البلاد وتردّي الأوضاع المعيشية، جميعها عوامل لابدّ وأن تسهم في تأخير هذه النهاية السعيدة، يقول: “أخطّط وغزل لأن نتمّ مشوارنا الجامعي في البداية ومن ثمّ أن نحاول السفر، أو على الأقلّ أن نحظى بوظائف ذات مردود مادّي مقبول لكي نتزوّج، لا شيء أكيد في خططنا، لكن الأكيد هو أنّنا سنحارب في سبيل العيش معاً كزوج وزوجة بلا خوف من كلام الناس”.
لا تختلف حياة زيد وغزل في المنزل عن حياة أي زوجين سوريين بما فيها من أعباء ومسؤوليات، فتحكي غزل: “نعيش أنا وزيد حياتنا على اعتبارها تجربة زواج، وأظنّ أنّ التجربة نجحت فكلانا يشعر بسعادة غامرة مع أن المهام المنزلية وتدبّر مصاريف العيش جميعها أمور مرهقة ولكن علينا المقاومة لنثبت لأنفسنا أنّنا على قدر من المسؤولية”.
بين الانتظار والمساكنة والخطوبات المعلّقة يعيش العشّاق من السوريين في محاولةٍ يومية لإثبات كون الحرب طاحنة ومؤذية؛ إلا أنّه يمكن للحبّ أن ينتصر في النهاية.