تقرير: علياء أحمد*
“الله يلم الشمل” الدعاء الأحدث، والأكثر تكرارًا بين اللاجئين السوريين، يختصر أمنية وحيدة يشترك فيها الآلاف ممن فارقوا أسرهم، وتركوها تنتظر في سوريا المشتعلة بالحرب أو في غيرها من الدول المجاورة، ولجؤوا إلى دولة أوروبية تضمن لهم الحد الأدنى من حقوق الإنسان في العيش بسلام، على أمل إنهاء هذه الفرقة ولم شمل أسرهم من جديد بعد حصولهم على حق اللجوء والإقامة.
لم شمل الأسرة بعد انقطاع قد تطول مدته أو تقصر، يعني أن تستكمل الأسرة حياتها مع بعضها، في ظروف مختلفة كليًا ومتغيرات جديدة في جميع المجالات، الأمر الذي يشكل تحديات خارجية في وجه التأقلم مع الواقع الجديد، ولكن هذه التحديات لا تعدو أن تكون شيئًا يذكر، أمام التحديات الداخلية في الأسرة والمتغيرات الجذرية التي قد تطالها نتيجة أسباب مختلفة.
بوجه عام، يمكن ملاحظة أربعة نماذج من العلاقة الأسرية ظهرت بعد “لم الشمل”، ويحوي كل منها في طياته تفصيلات أكثر دقة حسب كل تجربة وخصوصيتها، وهي:
- أسر تتجاوز أي خلافات أو مشكلات سابقة وتحقق المزيد من التفاهم والانسجام.
- أسر تستعيد طبيعة العلاقة بكل تفصيلاتها، مع اختلاف المكان فقط.
- أسر تستمر تحت شعار حماية العائلة من دمار الطلاق وسط مشاحنات قد تزداد أو تنخفض شدتها.
- أسر تنتهي إلى الطلاق.
هذا التقرير يستطلع آراء ووجهات نظر عدد من الزوجات (تحدثن جميعًا بأسماء مستعارة) حول تغيرات العلاقة الأسرية بعد لم الشمل، ويتيح مساحة قدر الإمكان ليعبرن عن تجاربهن الخاصة، على أمل استطلاع أراء الأزواج في الموضوع ذاته لاحقًا.
عن تجربتها تقول هناء: “علاقتي مع زوجي أصبحت أفضل نتيجة سببين، الأول أن الحرب دفعتنا إلى الترفع عن صغائر الأمور، حيث كنت أتشاجر مع زوجي على كل صغيرة وكبيرة، والآن بتنا ننظر بعيون مختلفة تجاه الأمور نفسها، والسبب الثاني أن الشوق والحب جعلانا نفكر بأخطائنا الماضية تجاه بعضنا ونسعى لتلافيها”.
تغير الطباع واعتياد حياة يومية مختلفة
تجربة هناء تختلف كليًا عن غيرها، فهناك من سافرت معه مشكلاته السابقة، وأضافت عليها الحياة الجديدة نكهات أخرى. تقول رامية :”عانيت كثيرًا بعد سفر زوجي، كل منا صارت له حياته الجديدة المختلفة، تغير تفكيرنا، اختلفت همومنا، وعندما لم شملنا من جديد، شعرت أنه تحول لرجل آخر، بعد أن عاش وحيدًا براحة نفسية بعيدًا عن المسؤولية وعن أجواء الحرب، في البداية كنا نتشاجر على أصغر الأمور، ولكن بعد فترة لا بأس بها، عدنا إلى توازننا واستطعنا أن نصل إلى التفاهم من جديد، من تجربتي لا أنصح أبدًا بسفر الزوج لوحده”.
يعتبر نموذج تجربة رامية الأكثر انتشارًا، فمن الطبيعي أن تختلف الظروف النفسية لأحد الطرفين (زوج أو زوجة) الذي بقي في بلد تستعر بها الحرب، أو أي بلد أخر عانى فيه صعوبات جمة، أقلها تحمل مسؤولية وأعباء تربية الأطفال بعيدًا عن الشريك، الذي هو نفسه أيضًا كانت لديه معاناته الخاصة التي لا يجوز الاستهانة بها، ومن أبرزها مخاطر الطريق، مشاعر الغربة والقلق على الأسرة المتروكة خلفه في خطر.
حول هذا، تحدثت السيدة ابتسام (خريجة إرشاد نفسي) عن “أربع نقاط يتوجب الانتباه إليها”، وهي:
“الأولى أن المرأة تتحمل المسؤولية أثناء غياب زوجها، وتصبح هي قائد البيت والصرف وشؤون الأولاد، هذا الواقع الجديد يناقض غالبًا ما كانت عليه من إتكالية سابقًا على الرجل، ولكن عندما يعود الزوجان للالتقاء من جديد يُفاجأ الرجل بشخصيتها الجديدة، وهنا تبدأ الصدامات عند البعض، النقطة الثانية أن كثيرًا من الرجال والنساء، خاصة من تجاوز الأربعين من عمره، كانوا قد أنهوا دراستهم واشتغلوا بمهنهم واستقروا، ومنهم من كان يحضر لتقاعده، لكن قدومهم إلى بلد اللجوء أعادهم لنقطة الصفر أكاديميًا ومهنيًا، الأمر الذي يسبب ضغوطًا نفسية على الطرفين ويخلق مشاكل، النقطة الثالثة، هي أن الرجل الذي كان له عمل ومكانة اجتماعية وعائلية فقد رصيده هذا في الغربة، طبعًا حسب كل حالة، ولكن هذا يؤدي إلى ضعف وخلخلة بالثقة بالنفس، وإلى مشاكل نفسية تنعكس على الحياة الزوجية، النقطة الرابعة، اعتياد أحد الزوجين على حياة العزوبية قبل لم الشمل، وخاصة عند من تزوج مبكرًا منهم، سيجد بيئة خصبة يعيش فيها تجارب مراهقة جديدة ويعيد تكوين صورة أكثر عمقًا عن ذاته، وقد تنعكس هذه التجارب سلبًا على الحياة الزوجية والأسرية”.
وتشير السيدة ابتسام أن بدء الزوجة غير العاملة سابقًا بالخروج وتعلم اللغة وازدياد علاقاتها الاجتماعية، يزيد من رصيد إنجازاتها ويرفع من ثقتها بنفسها، مما يخلق شعورًا شديدًا بالغيرة عند بعض الأزواج، وهذا يفرز مشاكل متنوعة.
دور القوانين التي تحمي المرأة من العنف بجميع أشكاله
الانتقال النوعي من بلد فيه قوانين تمييزية ضد المرأة، تنقصها حقوقها، إلى بلد تتمتع المرأة فيه بحقوق كاملة، يمنع أن يمارس عليها أي شكل من أشكال العنف، شكل صدمة بادئ الأمر لكثيرات، وتنوعت ردود أفعال النساء اللواتي عرفن بهذا القانون ما بين رافضة لاستخدامه بحجج كثيرة أبرزها الخوف من إطلاق أحكام أخلاقية عليها من قبل محيطها القادم معها من سوريا، فكثيرًا ما تتهم النساء المطالبات بالطلاق بأنهن “يردن الاندماج”، في غمزٍ سلبي إلى ممارسة بعضهن سلوكيات يتم إطلاق أحكامٍ أخلاقية عليها. إلى نساء حققن إنجازًا على الصعيد الشخصي بحماية أنفسهن وأطفالهن من عنف أُجبرن سابقًا على الرضوخ له، بسبب التمييز القانوني ضد المرأة، إضافة لعدم الاستقلالية المادية، مما سيجعل منها ومن أطفالها في حال وجدوا؛ عبئًا على أهلها، وخشية أنها ستفقد حقها بحضانتهم بعد سن محدد، عدا عن النظرة الاجتماعية السلبية تجاه المطلّقة، والتي تضع اللوم عليها وتصبح وصمة لها ولبقية النساء من أسرتها، وهناك من لم يعرن بالاً للأحكام الجائرة ضدهن، لأن مجرد التعاطف معهن لم يخفف يومًا المعاناة التي عشنها، وبتن بحاجة للجوء إلى قوة القانون ليضعن حدًا حاسمًا لها ويبدأن حياتهن من جديد.
تحدث سعاد عن تجربتها الخاصة قائلة: “أنا متزوجة منذ خمسة عشر عامًا ولدي طفلان، جئت منذ أربعة أشهر إلى ألمانيا بعد فراق دام بحدود السنتين، كانت المشاكل بيني وبين زوجي دائمة منذ بداية حياتي الزوجية، ولم أكن أجرؤ على التفكير بالطلاق في سوريا، خلال فترة فراقنا كان يعدني بفتح صفحة جميلة جديدة يعوضني فيها عما فات، ولكن ما حدث أنه لم يتغير شيء، على العكس، أصبحت علاقته مع الأولاد سيئة أيضًا، وفشلت محاولاتي الكثيرة لتفهمه. أنا مترددة باتخاذ قرار الطلاق كُرمى للعِشرة التي بيننا. أعرف حقوقي هنا، وأستطيع العيش مع أطفالي لوحدي، ولكني آمل بأن يتعدل سلوكه ويحترمني ويعامل أطفالنا بإيجابية بدل أن يؤثر سلبًا عليهم”.
أما منال، فقد كانت لها تجربة مختلفة توضح أن تواطؤ المرأة ضد نفسها يساهم في استمرار الظلم بحقها، وأن عليها (أي المرأة) أن تقف وتقول: “كفى” لمعاناة قد تدوم طويلاً وتزيد يومًا بعد يوم.
تقول منال: “عمري 36 عامًا، وتزوجت بعد علاقة حب منذ عشر سنوات، لدي طفلان، بنت عمرها تسع سنوات وصبي بعمر السابعة، كنت أعمل سكرتيرة في شركة بدمشق، وحياتي كانت هادئة، إلى أن بدأت مشاكل جديدة بالظهور مع تغير معاملة زوجي لي، واكتشافي لوجود علاقات عاطفية في حياة زوجي. مع اندلاع الحرب في سوريا، بدأت مشاكلنا تزداد نتيجة الأوضاع، وفجأة بدأ زوجي يقنعني بالسفر واللجوء لدولة أوروبية نبدأ فيها حياة جديدة، ورغم رفض أهلي القاطع لهذا القرار، إلا أنني نفذت رغبته، واقتنعت أن هذا قد يكون أفضل لنا، عشت تجارب قاسية في رحلة اللجوء، بدءًا من رحلة الموت في البلم، والمضايقات التي تعرضت لها كأي امرأة تسافر لوحدها، ولكنني نجحت في التحدي، وبعد حصولي على الإقامة، بدأت بدراسة اللغة ونجحت بالمستوى B1، وبدأت بعمل الأوسبيلدنغ لأصبح معلمة في روضة أطفال، ولكن بعد لم شملي مع عائلتي، ازدادت معاملة زوجي سوءًا معي، بل أنه هجرني كليًا، متذرعًا بحجة عجيبة هي أنني أصبحت قوية أكثر من اللازم وبأنه لا يحب هذا، وتأكدت بأنه بات يفضل أن يعيش على هواه، ضاربًا بعرض الحائط كل ما وعد به، مشكلتي الحقيقية هي أنني أحبه، مستسلمة له، ودائمة التوسل إليه حتى أنال رضاه دون فائدة، ورغم أنه يؤذيني نفسيًا بكل الوسائل، إلا أنني في صراع دائم مع نفسي بين حبي له، وبين خوفي من تهديداته بأنه لا يخاف من القانون في هذا البلد، وبين رغبتي ألا تدمر عائلتي التي تحملت كثيرًا لإنقاذها من الحرب في سوريا، ولكن يبدو أن الحرب في أعماقنا هي الأشد قسوة”.
تتفق كثير من السيدات على أن العلاقات التي تسوء بعد لم الشمل، هي العلاقات الهشة أساسًا ولكنها كانت مستمرة بحكم ضوابط مجتمعية وقانونية ومادية، أما في بلدان اللجوء الأوروبية يختلف الأمر كليًا، فالمساعدة الاجتماعية التي تتلقاها الزوجة مع أطفالها، وحماية القانون لها، وامتلاكها حق حضانتهم، وابتعادها عن المؤثرات المجتمعية وضغوطها، لا بد أن يجعلها تتخذ القرار رغم صعوبته بالنسبة لبعضهن.
ضجيج الأولاد!
كثير من الأطفال كبروا بعيدًا عن آبائهم، ومنهم من وُلد بعد سفر والده، واستطاع المشي والكلام، ولم يلتق بوالده إلا بعد مرور فترة زمنية أصبح بعدها هذا الأب وافدًا جديدًا إلى الأسرة، ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي قللت الكثير من معاناة البعد، وساهمت بتواصل الأسر بشكل شبه يومي افتراضيًا، إلا أن الرجل الذي كان يتواصل مع عائلته على شاشة الموبايل أو الكمبيوتر، خرج من هذه الشاشة كأحد أبطال برامج الأطفال، والأحلام منسوجة في أذهان أطفاله عن قدراته الخارقة في تحقيق السعادة الموعودة. لكن الواقع الصادم لا يساعد كثيرًا من الآباء المُرهقين من تعب الغربة والانتظار، والراكضين لإنجاز كم الأوراق المطلوبة الهائل ما بين مكتب العمل ومكتب الأجانب وغيرهما، عدا عن مهمة البحث عن بيت أكبر بين شركات العقارات وسماسرة البيوت، هذا بالنسبة للأب المحظوظ، أما الأب الذي لم يستطع حتى إسكان عائلته القادمة في سكن مستقل، فوضعه أكثر سوءًا…إضافة إلى معايير الحياة المختلفة كليًا عما عاشه الأطفال في سوريا الصاخبة بالحياة والفوضى، فالهدوء في البيوت مسألة غاية في الصعوبة بالنسبة لهم، وتأخر الالتحاق بالروضة أو المدرسة مع قلة أو انعدام وجود أقران لهم يشاركونهم اللعب، يزيد من قلقهم وتوترهم الذي غالبًا لا ينتبه له الأهل، ويفسرون اضطراب سلوكيات أطفالهم وضجيجهم مجرد شغب يجب ضبطه حتى لا يتسبب بمشاكل مع الجيران الألمان، الذين يسعى كثير من اللاجئين إلى “كسب رضاهم” من خلال أي تفصيل صغير، لإثبات أنهم لاجئون جيدون ويحترمون القانون.
تقول هبة: “واجهنا بعض الصعوبات في بداية قدومنا، حيث أن الرجل يكون قد اعتاد الهدوء والوحدة والراحة النفسية وعاد إلى حياة العزوبية، ويبدأ بفرض منهجه وأسلوبه على عائلته القادمة، الأمر الذي يتسبب بالمشاكل، ويحتاج للوقت لإعادة الانسجام لو ببطء شديد”.
وتتشارك شادية مع هبة بالمشكلة نفسها: “نحن متزوجان منذ 9 سنوات، وغاب زوجي عنا مدة سنة حتى استطعنا لم الشمل. أنا في ألمانيا منذ 25 يومًا، وكل شيء على ما يرام، عدا النكد الذي يسببه ضجيج أولادي ويثير عصبية زوجي، وكأنه نسي كليًا كيف كان أطفاله، ويتهمني بأنني من غيّرهم وأساء تربيتهم”.
نساء كثيرات اشتكين من عصبية أزواجهن جراء فوضى وضجة أطفالهم، وتضخم هذه المشكلات أحيانًا لتصل إلى شجارات بين الزوجين.
في لقاء مع السيد سامر عساف للتعليق على الموضوع من خلال خبرته كأخصائي نفسي يعمل مع اللاجئين السوريين. يقول عساف: “هناك مشكلتان أساسيتان تعترضان الفرد والأسرة القادمين من المجتمعات “الجمعية” إلى مجتمع “الفردية” الغربي. الأول يتعلق بالخصوصية والفردية وتقييمها، فبينما توضع المجموعة في الفكر “الجمعي” في المقدمة على حساب الفردية، ينعكس الحال في المجتمع الفردي، حيث تعتبر “الاستقلالية” ذخيرة نفسية وميزة وعلى كل فرد أن يقف على قدميه، أي أن يتعلم تسيير أموره بنفسه دون الاعتماد على الآخرين. الصعوبة الثانية المهمة تتعلق بالأدوار، كدور المرأة والرجل، حيث أن التراتبية وتوزع الأدوار في الأسرة الشرقية لا ينطبق مع الطريقة الغربية، فلا يملك الأب أو الأم إمكانية تعنيف الطفل مثلاً، ولا صلاحية للرجل بمصادرة حرية المرأة، لذا يشعر بعض الآباء والأزواج بفقدان سلطتهم الأسرية في المجتمع الجديد”.
ويضيف السيد عساف: “هناك مستوى آخر لطبيعة المشاكل التي يتعرض لها المهاجرون, تختلف باختلاف الجيل، فمشاكل الجيل الأول (الأهل) تختلف عن مشاكل الجيل الثاني (الأولاد)، فبينما يعاني الأول بشكل أساسي من صعوبات في التواصل اليومي ومحاولة التوفيق بين ما حمله معه وبين ما هو راهن الآن، يعاني الجيل الثاني من مشكلات الهوية، ويتعرض الطفل مثلاً إلى ضرورة التعامل مع صورتين مختلفتين، الأولى تقدمها الأسرة مستمدة من المجتمع الماضي والثانية تقدمها الروضة والمدرسة أو المجتمع بشكل عام. بالإضافة إلى صعوبات تعلم اللغة، إيجاد العمل، التمييز العنصري وغيرها من المشاكل التقليدية“.
يشدّد عساف على ضرورة تعلم اللغة، ويؤكد على أهمية الانخراط في المجتمع الجديد والتعرف إليه عن قرب، والتخلص من الأحكام المسبقة التي تمنع التواصل الفعال، ويقول: “لابد من الابتعاد عن العيش في الجزر الثقافية، أي التعامل فقط مع أوساط مهاجرة والانغلاق عليها”، ويدعو عساف المهاجرين الذين تأقلموا مع المجتمع الجديد أو الذين أنجزوا تحصيلاً علميًا أو ثقافيًا في الوسط الجديد أن يكونوا جسورًا تمتد بين الثقافتين، وأن عليهم تأسيس جمعيات ومؤسسات تختص بعملية تأقلم سلسة تبقي على المفيد والقيّم من “الماضي” وتأخذ المهم والمفيد من الراهن.
*كاتبة وباحثة سوريّة مقيمة في لايبزغ.