كثيرةٌ هي الأوقات التي يشغل جسدنا نحن النساء جزءاً كبيراً من تفكيرنا، وقد يبدأ هذا في سن مبكرة جداً، قبل عروسة السكر حتى، حين تكون أول نظرة للطفلة المولودة هوية عبور لها، هي كربوجة وجميلة، وعيونها واسعة، بيضاء أم سمراء، عسلية العيون أم سوداءها، وعليه هل سيكون ما ولدت به مستقبلاً مضموناً أم مشكوكاً به؟ هل ستلاقي صعوبات في حياتها أم ستكون سلسة ناعمة كما جسدها الغض الجميل؟
في مراحلنا المبكرة نتلقى الإطراءات والمديح، أو النظرات المتأنية التي تنتظر ما سنكون عليه بعد سنوات. ومع سنوات نمو الجسد يتحول سؤال هل أنا طفلة محبوبة إلى هل أنا امرأة مرغوبة؟ وكيف يمكن أن أكون جاذبة وليس فقط جذابة؟
الحب الذي نتلقاه من أمهاتنا وآبائنا مهما كان شكلنا ومقياس جمالنا في طفولتنا المبكرة هذه سيبقى معيناً لنا في سنوات عمرنا اللاحقة، فلا يمكن أن أنسى ما كانت أمي تدلعني به في صغري (قحاطة البطن) دلالة على سماري قياساً بأخواتي وأخوتي. أو غزالتي (اشتقاقاً من اسمي ربما أو دلالةً على هدوئي مقارنة بأقراني)، قد يكون هذا أحد تفسيرات استمرار التصاقي بها لسنوات أكثر من المعتاد حتى قررت الانفصال أخيراً عندما بلغت الثانية عشرة.
لماذا هذا التمهيد الحميمي الآن؟ لأن علاقتي مع جسدي أخذت سنوات طويلة من الصراع حتى توصلت إلى المصالحة وإن كان تقبل هذا الجسد الوحيد الذي أملكه ويملكني أخذ سنوات أطول بكثير.
المرأة الوعاء
يتم تأهيلنا نحن النساء لنكون واجهةً لقيمة أكبر تتمثل بالحمل والإنجاب، فلا قيمة لامرأة لا تفكر بالأمومة، نعم لقد اختلف الزمن كثيراً، واليوم هناك قيمة أكبر للنساء كما هناك مطالبات لأن تلعب دوراً إنسانياً وحضارياً متزايداً كشريكة في الحياة، ولكن على مرّ مئات السنين تمَّ تكريس قيمة المرأة بكونها وعاءً يحتضن النطفة لتتحول لكائن حيٍ يفاخر به المجتمع والدين، الأمم.
وفي دورٍ يقتصر على هذه المهمة يأخذ الجمال شكلَ هذا الوعاء تماماً حيث الأثداء الكبيرة يدان للجرة تساعدان على حملها، وحيث الأوراك العريضة سكنٌ مريحٌ لهذا الكائن النامي باطراد حتى موعد الولادة. أما الوجه الجميل والجذاب فهو الشفّة التي يشرب منها الرجل حين يقرر إيداع نطفته فيه.
في تقليص دور المرأة على هذه المهمة كانت النساء أشبه بآلات للإنجاب، فمن ناحية هناك ضرورة لهذا العدد الكبير من الإنتاج البشري ليغطي احتياجات قوة العمل خاصة في المجتمع الزراعي، وكذلك هم الداعم والمدافع والسند للرجل الأب المتفاخر بعدد من يحيط به خاصةً من الأبناء الذكور.
المرأة المتكيفة مع دورها تحاول أن تكون “الوعاء” الوحيد أو لأطول فترة ممكنة في حياة شريكها، وهذا مرتبط بحفاظها على خصوبتها وقوتها البدنية، وكذلك على رغبة الرجل – الشريك فيها من خلال محافظتها على جمالها. هي تعلم أنه في وقتٍ لاحق ستكون قد استُهلكت لآخر رمق، وحان موعد استبدالها!
المرأة الجسد – للجسد
استكمالاً لفكرة المرأة الوعاء، عكس الفن تاريخيّاً رؤية المجتمع لدور المرأة وماهي التفضيلات المناسبة لجسدها، فوجدنا في التماثيل اليونانية، كما في الرسومات الجدارية أو التماثيل الطينية من الحضارات القديمة، كل ما يمجد خصوبة المرأة ويدعم هذا الدور الثلاثي: الوجه-الشفة، الأثداء/المقابض، الحوض/الخصوبة.
لكن هذه الأدوار تغيرت ومعها تغيرت مقاييس الجمال الأنثوي، فمع بزوغ الثورة الصناعية وتدفق أعداد كبيرة من المزارعين إلى المعامل، كان لابدّ من إدماج النساء في دورة الإنتاج هذه، ولم تعد وظيفة المرأة الإنجاب فقط، فقد تحولت هي وعائلتها ككل إلى قوة العمل لصاحب المعمل البرجوازي، ومع هذه الخطوة الجديدة تغيرت ملامح نساء صاحب المعمل، أصبحت رقيقة العظام، شاحبة الوجه، صغيرة الأثداء والحوض، تهتم بنوعية الحياة ودورها فيها، بدل اهتمامها بدورها الإنجابي فقط. وأصبحت مقياساً للجمال الراقي غير المتاح للعاملات العصاميات، قويات البنية والقادرات على رفد دورة الإنتاج بعمال جدد.
مع التطور المستمر للتقنيات وأتمتة العمليات الإنتاجية، أصبح الجمال بمقاييسه تلك متاحاً لشرائح أوسع من النساء، وأصبحن مطالباتٍ أمام رجالهنّ بأن يكنّ بصورة ما أشبه بتلك المرأة الحلم البرجوازية، الرقيقة، الشاحبة، المدللة والمتعلمة.
اليوم أصبحت تلك الصورة في كل بيت، وتحول الجمال إلى موضة متاحة لجميع الراغبات، وأُتيحَ لطبقة أوسع من النساء اتخاذ القرار تجاه أجسادهن، سواء في استخدامه للإنجاب، أم الحفاظ عليه ليكون جسداً للجسد وجمالاً للجمال؟
الجسد كهوية
عندما ننظر إلى أي امرأة نستطيع أن نقيّم جزءاً كبيراً من هويتها بناءً على شكل جسدها، كم تمضي من الوقت في الاهتمام به، كم تصرف من المال لصيانته، كيف ترى دورها في العائلة والمجتمع بناءاً على اهتمامها الصحي به أو مبالغتها في تطويعه ليناسب ما يريده المجتمع؟
نصاب بالغثيان لكثرة الضخ الإعلامي حول ما يفترض أن يكون عليه جسدنا وشكلنا. وكثيراً ما نسقط في شرك الإعلانات التي تواجهنا في كل لحظة: في الشوارع والتلفزيون والسينما ووسائل التواصل. فلا حجّة لأي امرأة في ألا تكون كما يريد منتجو الجمال المصنّع والمعلب.
اليوم تعود مقاييس الجمال القديمة ولكن في سياقٍ مختلف تماماً فالمرأة/الشفة يجب أن تحقن شفتيها ووجنتيها بالفيلر تشبهاً بالمشهورات من النساء، والأثداء عادت لتزداد كبراً شرط ألا يزداد عرض الخصر كذلك، فالجوع مازال يحكم النساء، وما نراه من بروزات صدرية أو وركية، هي نتاج أبحاث مطولة ومواد قابلة للنفخ وغير قابلة للتسرب، وهي موظفة بدقة لإثارة شهوة مفترضة عند الآخر-الرجل الراغب دائماً بالمزيد كما بالتغيير.
في هكذا سوق يتم طرح سؤال الهوية من جديد
نحن النساء.. من نحن حقاً؟ وكيف نعرف أنفسنا؟ هل نحن جسد يجب أن نخضعه لكل هذه العذابات التي تفرضها السوق وتحولنا إلى مستهلكات لكل شيء بدءاً من قلم الحمرة وليس انتهاء بحجم الدهون والسيليكون الذي تحتويه أجسادنا؟
أم أننا ذات عاقلة قادرة على التغيير، كما تدعو الحركات النسوية، وعلينا أن نحرر أنفسنا من عقدة الجسد ، ونكون بشراً فاعلين بكل أشكالنا وألواننا، فتنوعنا نقطة قوتنا وسرّ جمالنا بعيداً عن التعليب والتسويق.
أعتقد أن هذا النقاش أوسع بكثير وبحاجة لمزيد من التفاعل من قبل النساء أولاً والرجال ثانياً، فلا يمكن عزل كيف نرى أجسادنا وأنفسنا دون العودة الرجوع إلى محوري العلاقة الأساسيين الراغب والمرغوبة.
خولة دنيا. كاتبة وناشطة سورية مقيمة في تركيا
اقرأ/ي أيضاً:
النساء وشعر اجسادهن… موضوع يشغل الحركات النسوية والرأي العام الغربي
كيف صار جمالُ المرأة سجنها؟ نعومي وولف و”أسطورة الجمال”