الجزء الأول*
وائل زكي زيدان*
في العام 1220 م اقتحمت جحافل المغول مدينة بخارى الواقعة في “أوزباكستان” الحالية، ومارسوا فيها شتّى صنوف السلب والنهب والتخريب، قبل أن يبدؤوا بإحراقها كعادتهم عند اجتياح أية مدينة.
وفيما كان “جنكيز خان” يتجوّل في الشوارع والساحات دخل بفرسه أحد مساجد المدينة والمعروف بالمسجد الجامع، ثم راح يتأمله طويلاً كالمأخوذ، لا كمكان خاص بالعبادة وإنما كتحفة معمارية فريدة، حتى ظنّه أول الأمر قصر السلطان. فما كان من هذا الرجل الملقّب “بقاهر الأرض” إلاّ أن أمَرَ جنودهُ بالامتناع عن حرْق ذاك المسجد بالذّات إضافةً إلى بضعة قصور أخرى.
ما من أحدٍ كان يقف بجوار ذاك المسجد آنذاك، ليشرح لهذا القادم من قفار منغوليا الموحشة قيمة المبنى من الناحية الفنّية، أو ليعطيه كخرّيج من السوربون درساً في علم الجمال والحساسية. لقد استطاع المبنى وحده بثراء زخارفهِ ومُقَرنَصاتهِ وبروعة نقوشهِ وبلاطهِ المضلّع أن يدافع عن نفسه بنفسه، وبتعبيرٍ آخر نجح الجَمَال وحدَه وبصمت أن يُخمد رغبة “جنكيز خان” بالحرق والتدمير والانتقام من دون سجال أو فلسفة. ومن المؤكد، بالنسبة لي على الأقل، أنها ليست المرّة الأولى التي يسجّل فيها الجَمَال بمفردهِ انتصاراً نظيفاً وغير منظور على الهمجية.
أصبح الجمال عِلماً مثل بقية العلوم منذ ثلاثة قرون فقط، على يد الفيلسوف الألماني “الكسندر بومغارتن Alexander Baumgarten” (1714–1762) وسيفشل الجميع مذّاك بإيجاد قواعد ناظمة وصارمة لهذا العلم الجديد، تاركين لروح المُتلقّي، قبل ثقافتهِ، هامشاً كبيراً لاختيار الموقف الجمالي الإنساني من كل ما هو جميل، وليتّسم الموقف ذاته بسِمة الحرية، لأن طرفه الأول هو حُرية داخلية في تكوين الموضوع الجمالي، وطرفه الثاني هو حرية ممنوحة لمشاعر المتلقّي وخياله. لكن من الواجب التذكير هنا بأن مختلف صنوف العِلم، بما فيها الفلسفة، قد كفّت عن إنتاج الدهشة ابتدائاً من منتصف القرن الماضي، خصوصاً وأن “سارتر” كان آخر رجل يمكن أن نطلق عليه وبكل ثقة صفة “فيلسوف”. وسأستثني من هذا طبعاً علم الفيزياء الفلكية، التي تقف الآن مع الجمال الفني من دون منازع فوق الحلبة.
سيكون من غير العدل أن يتم دمج مفهوم الجمال الطبيعي مع ما قصدتهُ سابقاً من ذكر لكلمة (الجَمَال)، ذلك المفهوم الذي كان سائداً في الثقافة الإغريقية من أن البشرية يتكثّف فيها الجمال الإلهي الكامل، والإله هو المثال المتكامل السامي للإنسان. ليس عندي رغبة هنا في الجدل حول هذا، لكن لا بأس من الإستشهاد بتلك الشائعة الجميلة التي تلخّص ذلك التصوّر عن خطيب ومحامي أثيني أَمرَ موكّلته،ُ وهي على منصّة الإتّهام، بالتجرّد من كل ملابسها على مرأى من القضاة وهيئة المحلفين، للبرهنة على أن ذلك التناسق والجمال الجسماني البديع يستحيل أن يصدر عن صاحبتهِ أيّة جُنحة أو جريمة! فالجمال الطبيعي ليس المقصود وإنما موضوعنا هو الجمال المرتبط بالفن، الذي اعتبره هيجل “أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج للروح. إن كل ما يأتي من الروح أسمى مما هو موجود في الطبيعة، وأردأ فكرة تخترق فكر إنسان أفضل وأرقى من أعظم إنتاج للطبيعة”. فما قصدته بالجمال، هو ذلك الذي يشتمل على مقدار كبير من الحرية التي تفتقدها ظواهر الطبيعة في ذاتها، ويتجاوز بمجرد وجوده وصياغته سمة الترف كما أحب أن أعتقد هنا، وكان منذ البداية في مواجهة مدهشة وغير مرئية مع مختلف أشكال وشخوص القبح والهمجية عبر التاريخ.
من الوقائع المعاصرة التي تشدّ الانتباه ما حدث مع الطفل الإيراني “سينا بيمارد” البالغ من العمر ثمانية عشر عاماً، وهو موسيقي كان من المقرر في الأصل تنفيذ حكم الإعدام بحقّه في سبتمبر/ أيلول 2006 حسبما ذكرت منظمة العفو الدولية، وذلك بسبب جريمة قتل كان قد ارتكبها “بيمارد” حين كان في سن السادسة عشرة. في اللحظة التي كان فيها على وشك أن يُشنق، طلب “سينا” من جلاّديه أن يعزف على آلة الناي للمرة الأخيرة، فأثار عزفه الشجي مشاعر عائلة الضحية بحيث منحوه وقفاً لتنفيذ الإعدام في اللحظة الأخيرة.
إن الجمال بوصفه قيمة إيجابية مرتبطة بالغريزة والعاطفة، يجد لنفسه موقعاً بيننا كخيار داعم لكل ما هو حيوي من خصوبة وصحة وسعادة وطيبة وحب، وفي المجمل لكل ما من شأنه أن يدعم الحياة، فيما البشاعة بانعكاساتها تكون على النقيض في دعمها للألم والإفناء.
لقد أدركت حضارة وادي الرافدين وعلى نحو عجيب أهمية التأثير وردود الفعل التي تنشأ عن الفن الجميل، حين يعزف ديموزي إله الرعي وربّ الماشية والنبات على الناي لتتجمع الحيوانات الأليفة والمفترسة حوله على حد سواء، في وئام وإلفه منقطعة النظير، متأثرة بتلك الموسيقى التي هي، وفي ذات الأسطورة، شرط جوهري لحدوث الربيع وعودة الحياة إلى الأرض.
يتبع…
اقرأ أيضاً: