سيف الدين القنطار
جدلياً، للتراجيديا السورية بداية وذروة ونهاية، وقناعة السوريين عامة تتعاظم بأن عصر الرصاص مثل الرصاص أعمى يخبط خبط عشواء، فقد ارتوى التراب بدماء أبنائها، وأنهك الحصار واللجوء الملايين، وأضناهم التشرد في قارات العالم الخمس، وبعضهم لم ُيتح له الوصول في قوارب النجاة فمات غرقاً، والبعض لا زال في وطنه الممزق مسكوناً بالخوف.
التدخل الخارجي:
ثمة حرب ماضية قدماً لا تبقي ولا تذر، تشارك فيها دول أجنبية تستخدم أخطر الأسلحة وأحدثها، تبيد مدينة بأكملها بحجة القضاء على ثلة من (التكفيريين الظلاميين)، فيقتل آلاف الأبرياء وعشرات الإرهابيين. ولنا أن نتخيّل كم سيخلف استمرار انهمار القذائف وتدفق الدماء من كوارث وويلات وجروح إنسانية عميقة تتعلق بمصير السوريين كافة، وبما يرتسم على الأرض في قادم الأيام من خرائط وكانتونات ومناطق نفوذ، فما جرى ويجري يفوق الخيال، البعض يقول: إن البشرية لم تعرف مثل هذا منذ الحرب العالمية الثانية، ويرجعونه إلى أسباب عديدة شديدة العمق والتعقيد، داخلية وعربية وإقليمية ودولية، ويرون أساسه في غياب الحكمة والحصافة السياسية في مواجهة تلك الأسباب، والعجز عن قراءة الأحداث التي استغلت منذ البداية. ويبقى السبب المباشر لما جرى ويجري هو التحدي السلمي لسياسات جائرة، فاقمت التفاوت الطبقي بين السوريين، ورمت بخيرة شبابهم إلى سوق البطالة، واستخدمت القمع رداً على مطالب الناس العادلة، وزرعت الخوف في نفوس أبناء الوطن التواقين للحرية والكرامة.
نداء التغيير البدئي:
ما جرى في سوريا يعبر في أهم تجلياته عن الاستجابة لنداء التغيير في بلداننا العربية، ذاك الذي هز أعمدة أنظمة شمولية عاتية تعج بالفساد، بدأ في تونس وانداح كالطوفان. الشباب الذين حملوا راية التغيير اندفعوا إلى الساحات والشوارع يعبرون عن ذواتهم ولا يسألون عن المآل، فتمردُ الشباب وتوقهم إلى الجديد أمر طبيعي حسب قانون التاريخ. وقد جرى الاستخفاف بأمانيهم وتطلعاتهم واستسهل أصحاب الشأن وأدها خلال أيام، ولم يأخذوا بالحسبان أن ثمة من يتّربص ويتهيأ لتغذية الصراع كي يذبح السوريون بعضهم، لينتهي كل ذلك إلى تحويل وطننا إلى ساحة حرب، شاركت فيها الصواريخ البالستية والأسلحة الثقيلة والخفيفة وراح ضحيتها الأبرياء، وقادت إلى استدعاء فصائل ظلامية طائفية، وإلى دخول قوى عسكرية دولية، وجماعات متآمرة من مشارق الأرض ومغاربها يحطّمون من خلال فكر سلفي قروسطي أحلام الشباب بالديمقراطية، ويهدد وجودنا شعباً وثقافة ودولة.
ثمن الدعم:
عبّرت الدول العربية والإقليمية التي تدخلت بالشأن السوري بشكل صريح عن مراميها، فمن وقف إلى جانب النظام حرص أن يأخذ ثمن ذلك قواعد عسكرية تمس السيادة الوطنية، وعقوداً اقتصادية جائرة لعشرات السنين، ومن سارع للإعلان عن دعمه لقوى المعارضة، نجح في حرفها عن مسارها السلمي ومطالبها الإنسانية والسياسية المشروعة، وأفلح في تمزيقها بتغذية الصراعات المسلحة بينها، والتي شتتت قواها وأفقدتها البوصلة الوطنية والحاضنة الشعبية، وحرص على اغتيال آمال الشعب بالمساواة والعدالة والديمقراطية. وثمة طرف في هذه الحرب يقوم بدور أخطر، لأنه يتطلع إلى بناء كيانه الغاصب “من الفرات إلى النيل”، فترمي طائراته بصواريخ محكمة على مطاراتنا ومواقعنا العسكرية.
كيف نستعيد وطننا:
السؤال الذي يطرح ذاته متى تنضج القناعة بإخراج المسألة السورية من مكائد السياسة الدولية وتناقضات الدول العربية وخصوماتها، والعودة بها إلى يد أصحاب القضية؟ فثمة فرق بين حرصنا على الاستقلالية والسيادة والتعاون، وبين الارتهان لمشيئة الغير في تقرير مصائرنا. فقد خرج الوطن من يد السوريين وعليهم أن يستعيدوه في ضوء اعتراف كل منا بحجمه الطبيعي، وقبوله أن يتعايش مع من لهم الحق مثله في خيرات الوطن، ويهتدي الجميع بمنظومة الحقوق والواجبات التي لا يحق لأحد القفز فوقها. فالوطن ليس قطعة من الأرض فحسب، بل تلك العلاقة بين الناس وحكّامهم القائمة على معيار الكفاءة وليس الولاء الزائف، والتي يجب أن يسود فيها إنصاف الناس، وتمتعهم بالحرية والمساواة والإحساس العميق بالكرامة.
يداً بيد قد ينجح السوريون في تحقيق معجزة استعادة الوطن، مدركين أن الحل السياسي الجذري المنبثق من دروس هذه التجربة المرة هو الخلاص، وهو يتطلب خلق فضاء ملائم لإنشاء هيئة لايستحيل تشكيلها، تمثل قادة رأي وفكر ورجال سياسة لهم ماض لا غبار عليه من داخل النظام وخارجه، يمتاز أعضاؤها بالكفاءة والقدرة على التفاوض مع كل القوى والأطراف المعنية، يضعون خارطة طريق تنطوي على التمسك بالدولة السورية الموحدة وذات السيادة، ويحسنون قرع أبواب الحل ويختارون زمانه ومكانه، فقد يتطلب ذلك رعاية الأمم المتحدة لضمان موافقة دولية كي لا تعرقل بعض الدول الخروج من دوامة الحرب، ولا تضع العصي في عجلات الحل العادل. الخيار الآخر عقد اللقاء في دولة عربية تمتلك الخبرة في تقريب وجهات النظر، ومن الطبيعي أن تجري اللقاءات بعد ذلك على الأرض السورية. أما أعضاء الهيئة فيتم اختيارهم من المحافظات السورية كافة، ليجسدوا فسيفساء المجتمع وتنوعه.
قرارات الحل:
أول هذه القرارات الخروج من دائرة الحرب وخطابها وإعلامها، خروج القوى الأجنبية من سوريا، الإفراج عن المعتقلين، وضع أسس عودة المهجرين، وإقامة كيان سياسي انتقالي يمهد السبيل لكتابة عقد اجتماعي جديد، يقرُر الصيغة السياسية الملائمة لشعبنا من خلال صياغة دستور ملائم يتناول مبادئ إدارة الدولة وركائزها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقضايا جذرية تتعلق بالسلطات الثلاث وصلاحية كل منها، وشكل العلاقة بين السلطة والمعارضة، ويجسد نزوع الشعب لإقامة نظام تعددي ديمقراطي من خلال قانون أحزاب يشيع فضاء ديمقراطياً ويضمن حرية النشاط السياسي، وتكريس مبدأ المواطنة، ومساواة المرأة بالرجل، وحماية حقوق الأقليات وبناء دولة مدنية علمانية يسودها الحكم الرشيد، وقصر نشاط المؤسسة العسكرية على حماية حدود الوطن، ورسم ملامح النهج الاقتصادي، واعتماد سياسة خارجية تجسد سيادة الدولة واستقلالها وغير ذلك من الأمور المصيرية.