أحمد ودعة.
لم يكن حلمي عندما سألتني مدرسة الصف الأول ماهو حلمك، وأجبتها بلسان طفلٍ ألثغ وأسنان قليلة (صيدلي) كما كانت تلفظها أمي تمامًا، في الثالث الثانوي أحببت فتاة في السنة الأولى بقسم علم الاجتماع، وكان جيدًا أن أسناني اكتملت وفقدت لثغة الطفولة، لم أحفظ المدارس الفلسفية لكنني أحببت فرويد وأوديب، كنت كلما سألني أحدهم عن حلمي أجيب بلسان الواثق: “كلية الآداب، قسم علم الإجتماع” أنا الحاصل على درجة عشرة من أصل أربعين بمادة الفلسفة، تركتني الفتاة الجميلة طالبة كلية الآداب بعد أن حفظت مداخل الكلية كاملة درجها، الحجر، والمقاعد والقاعات، ولم يكن ذلك مؤلمًا! الآن كل ما أفكر به أنني لن أصير شاعرًا..
أنا في بلد كبير ولدي الكثير من الفرص، سأكون عاملاً صغيرًا بورشة ميكانيكي سيارات، أستيقظ باكرًا دون أن أسمع زقزقة العصافير، وأركض مسرعًا إلى الباص دون أن أعد كم وردة جديدة تفتحت فوق شباك جارتنا الستينية، أعمل لثمانِ ساعات على الأقل، وأعود متسخًا إلى البيت، وبطريق عودتي وكأي طفل مشاكس أُفرغ عجلات سيارتكِ من الهواء لأستيقظ في اليوم التالي وأركب الباص مسرعًا غير مبال بغناء العصافير ولا بالورود الجديدة ولا بشتائمكِ التي تطال أم كل طفلٍ (أزعر) فقط لأصل باكرًا وأسمعكِ تقولين صباح الخير (أولاد الزنا كل يوم يفعلون ذلك) فأبتسم!
أو عامل كهرباء يمر كل يوم من تحت شرفتكِ يضع قلبه بقطعة من المطاط ويقذفه نحو عمود الإنارة المقابل لزجاجكِ النظيف ويعود ليلاً ليصلح ما أقترفه في النهار، يصعد إلى صندوق الرافعة ويرتفع (الطابق الخامس يا الله) لو كانت بأقل من ذلك لما استطعت. عاملاً نشيطًا يستهلك أربع ساعات لتبديل مصباح مكسور فقط لأنه لا شيء أجمل من مراقبة جسدكِ وهو يتعرق ببطء كزجاجة بيرة باردة، ذلك الأبيض النحيل المغطى بالنمش يحتاج نصف ساعة ليشعر بتغير الطقس وإبعاد الغطاء، وخمسًا وأربعين دقيقة لتنتهي من تقشير قميص نومكِ الشيفون، هذا تمامًا ما ينسيه تغيير المصباح المكسور واستعادة قلبه المكوَّم على الرصيف بالجهة المقابلة لشرفتك !
سائق جرَّافة يكنس الثلج عن الطريق كله ويترك كومة أمام بابكِ ليعرف مقاس قدمكِ فيُحضر لكِ فردة حذاء واحدة في عيد الحب لتكوني (ساندريلا) حياته، أو عاملًا بمحل زجاج يزوركِ لأن هناك حجرًا أصاب نافذتكِ فيعلِّق لكِ جلده كي لا تشعري بالبرد، ويعود كل يومٍ ليرمه بالحجارة ويكسره، سأصير حطابًا يضرب ظله بالفأس كي تأكل مدفأتكِ أو جدة عجوزًا تنتظر سلَّتكِ الأنيقة بفارغ الصبر فيأكلها الذئب، أو أمًا تنصحكِ بالطريق الأطول والمتعب لأن الطرقات المختصرة قد تودي بحياتك، أو ذئبًا ذكيًا يعرفكِ كما يعرف وجهه في المرآة، سأصير ذئبًا لا تهمه عجلاتكِ المفرغة من الهواء ولا صباح الخير والشتائم، لا يرمي قلبه ليكسر إنارة الشارع مقابل شرفتكِ، ولا يملك رافعة تصعد به إلى أعلى، لا يأبه بقميص نومكِ المقشَّر ولا جسدكِ الأبيض المحمر كصفعة طازجة، لا يفكر بعيد الحب ومقاس قدمك، ولا بجلده الممزق على نافذتك، ذئبًا بظلٍ كاملٍ، كل ما يهمه أنه يملك أنيابًا ولا يملك أصابع، كل ما يشغله أنه سيلتهمكِ، خلف شجرة أو قرب نهر، في المطبخ أو فوق سريرٍ مريح في الغابة أو بشارع عام بالطريق القصير أو الطويل أو بأي مكان آخر دون أن يكون شاعراً، دون أن يكتب لكِ قصيدة واحدة!.