نيرمينة الرفاعي | روائية أردنية من أسرة أبواب
“الزجاج محاولة الجدار لإفشاء السر”، يقول العاشق في الصفحة 24، وبنصوص زجاجية تفشي الفترة ما بين عامي 2014-2016 صدر عن بيت المواطن في بيروت في نهاية عام 2016 “مذ لم امت” للشاعر السوري الفلسطيني رامي العاشق، حاملاً الكتاب رقم 21 ضمن “سلسلة شهادات سورية”.
الكتاب يتضمن سبعة عشر نصًّا سبق لها أن نُشرت بشكل متفرق في الصحف والمواقع العربية، ويبدأ الكاتب مقدمة كتابه بالإشارة إلى أنّها “أشلاؤه” التي يطلب من قارئها ألّا يصنفها ضمن القوالب المعتادة، وقد يكون الحق معه، لأنَّه لا يتكلم في نصوصه عن “أمور اعتيادية”، فالثورة بالنسبة له “قيامة” لم تنته، والكتابة عنها “تحمل ندبات على عدد سكان المخيم”، من الطبيعي إذن أن تصنيف الندبات لن يكون بالأمر السهل.
وأمام الكتاب الذي سألتني ابنتي نورا عن غلافه فقالت: “لماذا يحمل هذا الرجل العالم على وجهه”؟ التزمتُ الصمت، ولم أستطع أن أجيب ابنة الست سنين لأقول لها إن النصوص مليئة بالوجوه فعلًا: “صار ابن الرب ربًّا، فلح وجوه الناس”، “هذه الملامح قد تكون لأحد أعرفه”، “بملامح فلاحات جنوب دمشق”، “سرقوا من وجه الوحش ملامح موتك”، “أبحث في الوجوه عن ملامح الذين أحبهم”، … وهكذا تستمر الوجوه في المرور عليك وأنت تقرأ الصفحة تلو الصفحة، ليتحول الكتاب من مونولوجات شخصية إلى عالم بأكمله يروي حكايات المرأة والطفل والمراهق وطالب المدرسة و”أبناء الخرابة والخراب”.
يحكي عن مخيم اليرموك، هو “ابن الخرابة التي نحب”، يطرح أسئلة اللجوء والغربة وهو يركض في الفراغ رافضًا “كل الجدران الإسمنتية وكل النوافذ المحصنة بحماية حديدية”، ويذهب “نحو بلاد لا يعرفها كي لا يهرب”!
النصوص التي توثق مشاهد من الهروب من دمشق والعبور بعمّان والوصول لكولونيا تشبه البيوت التي أوصى رامي العاشق بأن تهجرها وتصنع غيرها، تاركًا “في كل بيت ما يدل على شبقك”! وهكذا تجد نفسك تبني بيتًا من “الحجارة الأربعة التي ضلّت درب السقوط” في دمشق، وتقفز عبر أنابيب المجارير نحو الطرف الآخر من الشمس، وتبكي لبكاء امرأة كردية بلا ضفائر “تحمل ثأرها فوق صدرها معلَّقًا بسلسلة ذهبية”، وتكزّ على أضراسك وأنت تقتل في أحلامك كل من قتلوك دون أن يجرؤوا على الاعتراف بذلك، لتصل إلى جسر كولونيا بجثث أقفاله المصلوبة التي لا تنطق قصصها، ملوّحًا للشرطي الألماني الذي يتمنى لك يومًا سعيدًا، تاركًا الضمائر المنفصلة والمتصلة في “ها” وغير”ها” تغرق في نهر الراين.
يصفُ الكاتب الصمتَ بأنَّه “صوت الموت المكثف”، وينزاحُ بالنصوص نحو الشعر والتكثيف والمجاز، دون أن يخفض “صوت القذيفة التي تُنهي حفلة الجاز الشرقي” وهو يقابل “صانعة الكروشيه القروية”، ليعود لذكر الجاز مرة أخرى وهو يستعد للقاء المرأة التي “تخشى المناطق المرتفعة”، لتصمت كقارئ ما بين “في البدء كانت الكلمة” و”الموسيقا هي الأصل”، وتنجو بكليهما في نص واحد!
يخطر لكَ أن تُسقط الهمزات كلها وأنت تقرأ: “وهي تبحث عن الحب.. تفتح باب قصيدة وتتركه مواربًا لأدخل، فتتناسى همزة تعرف أنَّها تستفزني”، ثم أن “تخبئ آلتك الموسيقية تحت الطاولة”، وأن “تهجر بيتك وتصنع غيره” قبل “البعث بساعة”.
أعترف أنني كنت أقرأ بعض الفقرات بعيون مغمضة، لم أكن أريد أن أرى “كيف تكون آخر نظرة للإنسان، آخر صوت يطلقه، آخر نفس، وآخر خلية حيّة في جسده تصاب بالشلل”، نصوص رامي العاشق صادمة، جسدها مصاب بالقشعريرة، وعيونها مفتوحة على اتساعها على بلاد الموت والخراب و”الهدايا التي تقتلنا جميعًا”، تقرؤها ببطء منتحلاً اسمًا غير اسمك في محاولة للتنكر أمام “الملائكة الذين يحومون بثياب عليها شعارات زرقاء” و”الحوريات اللواتي يأكلن التراب”.
الأنا الحاضرة في النصوص تتصارعُ بين ثنائيات الموت والحياة، تدافعُ عن حريته أمام “سجن على هيئة امرأة”، ثم تصيحُ “بعطش الغارق في البحر، وجوع القابع في الخيمة”: “إني نجوت، لأنني لم أنجُ، لكنني كذلك لم أمت”!
وعلى الرغم من أنَّ النصوص كتبت متفرقة إلّا أنني أراها وحدة واحدة تشبه حائطًا واحدًا “عُلّقت عليه ساعات كثيرة، كل واحدة بتوقيت مدينة”.
يقول رامي العاشق في الصفحة 83: “وأنا نسيت كيف تكون المبادرة، فألبس معطفًا ليس على مقاسي وأمضي” ، وفاته أن من لا يناسبه مقاس معطفه يجد دائمًا حجة للعودة، ولكن أيعود “هنا” أم “هناك”؟ لن نعلم، لأن “الكل متغيّر، ولا ثابت إلّا اللاجئ”، و”لأن الوجه الذي أخبرته به المرآة ويظنه له، سيبقى دومًا على جسدها هي”، “هناك”..