قرأتُ رواية “جريمة في رام الله” لعبّاد يحيى بعد الموجة الكبيرة التي أثارها حظرها، وأستطيع، بعد قراءتها، أن أتفهّم سبب هذا الغضب الذي أثارته. أستطيع أن أدرك أن عددًا قليلاً من الفلسطينيين، يمكن إحصاؤه، قرأها قبل قرار المنع والمصادرة، نجا منهم عدد قليل ممن يهتمون بالأدب ويعلون شأنه، وبقيت مجموعة أخرى، يمكن تسميتها بـ “حرّاس الشرف”، وهؤلاء هم الحريصون المشغولون بشرف الأمّة، والغيورون على عفّتها، والذين يحاججون بمنطق مُحترم من شريحة واسعة يقول: “أترضاها لأختك؟”، “حرّاس الشرف” هؤلاء، لا يمكن اتهامهم بأنهم نصّبوا أنفسهم أوصياء على عقول المجتمع، لأنّ هذا غير صحيح، فالمجتمع هذا، هو الذي أطلق ذراعهم لتتحكم لا بعقله وحسب، بل حتّى في ألوان ثيابه الداخلية، مواعيد انفراد الزوج بزوجه ليلة الجمعة، ومعايير الحياء “الجمعي” وكيف يخدش.
وبما أننا نتحدّث عن “جريمة في رام الله”، فإننا بالضرورة مضطرون لعرض مرافعتنا أمام الناس، ولو أننا ندرك أن أكثر الناس لا يقرؤون، ولن يقرؤوا، حتى ولو قدّمنا دراسات نقديّة أو أبحاثًا أدبيّة، فالحُكم هنا للقطيع، وما يسمح به المشرّع، واعذروني على لاديبلوماسيّتي، فلم أعتد أن أكون ديبلوماسيًا لأكسب أي شيء.
دعوة للاغتيال
لنعد قليلاً إلى الوراء، قبل بضعة أيام، تداول “حرّاس الشرف” مقاطع محددة من الرواية، اختاروها بعناية، ونشروها على مواقع التواصل الاجتماعي، مقاطع مقتطعة من سياقها، نشرت بهدف واحد فقط، الاغتيال، نعم، لا مجال هنا للمواربة، أرادوا اغتيال الكاتب معنويًا، سياسيًا، ولا نستبعد أنهم أرادوا الاغتيال الجسدي أبدًا، فالقطيع بدأ بذلك فعلاً، وانهالت الدعوات لمصادرة الرواية وإخفاءها، بل إخفاء صاحبها، وهي دعوة لا ريب فيها لتغييبه وقتله أو اعتقاله.
مجتمع جاهل أم مجهّل؟
“حرّاس الشرف” يعرفون تمامًا ما يقومون به، ويدركون أن هذا المجتمع جاهل، يطلق أحكامه ويبني معارفه على “القيل والقال”، بكلّ قسوة كلمة “جاهل”، التي لا أريد أن أستبدلها بـ “مُجهَّل”، سالبًا منه خيار الجهل، لأنه بعد كل هذه الثورات الفكرية والتقنية والاجتماعية، لم يعد هناك مجال لرمي كلّ الأمراض على السلطة، التي ليست بريئة بالضرورة.
جرائم متسلسلة
لقد حدثت عدّة جرائم في الأيام الأخيرة، بوتيرة متصاعدة، أوّلها جريمة قرصنة بعض صفحات الرواية ونشرها لأغراض سبق ذكرها، ثانيها جريمة التشهير بالكاتب، ثالثها جريمة مصادرة الرواية، رابعها جريمة التحريض على القتل والتغييب. لقد تمّ تدجين الناس، حتى بتنا نراهم بوضوح، مجرمين ومشاريع قتلة، ودعاة عفاف، وطغاة لا أعرف إن كان هناك أمل في شفائهم.
مرافعة
سأتحدث قليلاً عن الرواية كعمل أدبي، فقط للاستئناس، لأننا لسنا أمام مرافعة أدبيّة بالأصل، بل أمام مرافعة أخلاقية جنائية، في شأن جريمة تورط بها جمع لا يستهان به من المجتمع، بكلّ شرائحه، إلّا أن المصيبة هنا، أن المرافعة ترمى في وجه المجتمع ذاته، ولا تلقى على آذان محامين وقضاة وخبراء في الأدب، فهؤلاء لا دور لهم في مجتمعات ما قبل الدولة، وتحت حكم سلطات “قلّة الأدب”.
سرد لا يعطي فرصة للتأقلم
تأخذ الرواية من السرد منهجًا، السرد الذي ينقطع فقط عندما يتم استبداله بسرد تذكّري، بتصميم ذكيّ، معدٍّ لكلّ القراء، أي أنّ التقنيّة هنا ليست نخبويّة ولا تتوجه للنخبة، وهذا ليس لضعف لغة الكاتب السليمة إلى حدّ كبير جدًا، بل لأن موضوع الرواية وحساسيّته يتطلبان ذلك، نجح عبّاد في لعبة السرد إلى حدّ بعيد في إبقاء القارئ “على قلق”، بحالة تأهّب وانتظار، بعيدًا عمّا دار حول الرواية من لغط، هذا التأهب هو في بنية السرد الذي بنيت عليه الرواية، السرد الذي لا يعطي فرصة للتأقلم والاستقرار، بل يكون تمامًا كمن يجلس تحت سماءٍ تمطر قذائف، لا يعرف أين ومتى ستسقط القذيفة التالية.
عوالم سرية موازية
تفكك الرواية بجرأةٍ مجتمعَ التنظيمات الفلسطينية، وفصائليّته، وانتقال الانتماء الفصائليّ بالوراثة، الأب الذي عاش حياتَه بِطولها وعرضها، ثم قرر أن يسيطر على أبنائه ويمارس سلطته عليهم، والحديث دومًا عن “رجال الدين” وتجاهل “نساء الدين” في المجتمع ودورهم وتأثيرهم، كما تشرِّح زيف العلاقات الاجتماعية الطارئة والأصيلة، والفاصل بين الواقع والمتخيّل، الحب الذي يأتي لمجرّد أن شابًا لمح يد فتاة، وتفاصيل مجتمع المراهقين، والعوالم السريّة الموازية لعالم المجتمع الذي يتظاهر بالعفّة. وتغرق في التفاصيل المشهديّة التي يمكن للقارئ إسقاطها على نفسه، لكلّ قارئ نصيب من هذه الشخصيّات، مشاعرها، تقلّباتها، ملامحها، نزقها، انفعالاتها، حتّى تخيّلاتها في غرفها السريّة.
تقنيّات
شخصيّة أوّل حب في الرواية “دنيا” التي رآها الرواي مرة واحدة، تنتهي دون لقاء ثان، ليسأل القارئ نفسه: على الأقل، كيف عرف اسمها إن لم يلتقيا، ليأتي الجواب بطريقة غير متوقعة لاحقًا كما كل الإجابات التي يريد أن يجيب عليها السارد، ويترك أسئلة مفتوحة لمن يريد أن يؤوّل ويبحث. يتخذ عبّاد يحيى، من مهنته كرئيس تحرير، تقنيّة التأريخ بالخبر، الذي يفتتح فيه كل مقطع، تختفي شخصيّات وتظهر أخرى بحبكة دقيقة مضبوطة من كل جانب، وبتقنيّة زمنية مبسّطة عمدًا، حتّى بشكل العرض، يجعل الكاتب كلّ مشاهد التذكر (فلاش باك) بخطّ مائل في تنسيق الكتاب وإخراجه، كي لا يشغل القارئ بشيء غير المضمون، الموضوع، وحساسيّته.
ببراعة، تقفز الرواية في دائرة من لهب، وتنجو، وتعيد المحاولة، ثم تنجو، كما لو أنك في (سيرك)، تخترق المؤسسة الأمنية وذكوريّتها ورائحة العسكر، كأسد متمرّس على اختراق حلقة النار، تفتت الرمز-السلطة، لتخرجها كأرنب من قبعة لاعب الخفة، تقفز في حقل ألغام بخبرة مهندسه، تعجن شخصيّاتٍ متعجرفة ترتدي بساطير لتُخرج من عجينتها شعرة الحكاية، وتعيد البطولة للعادي، تمنحها من جديد، للطبيعي، فكلّ عاديٍّ يمكن أن يكون بطلاً، حتى في مواجهة العدو، وكل بسيط يمكن أن يكون حقلاً من الألغاز تنتهي بأنه يدير شبكة أمنيّة تريد إطلاق صاروخ من مطار بن غوريون، أو تنفيذ عمليّة داخل إسرائيل.
شخصية مثلي الجنس
تحسب لعبّاد يحيى، جِدّته في تقديم شخصّية مثليّ الجنس، وتقمّصه، وتتبع المشاعر حين تعبر المعدة كخفقة، جدّة مطلوبة في تقديمه بصورته الطبيعيّة، لا شاذًا ولا مريضًا، ولو أنّه يشير إلى تعاطي المجتمع معه على أنه كذلك، إلّا أنه يقدّم النقيض، النقيض المتقمّص ببراعة. تفاصيل دقيقة منقوشة بلون أحمر، بيد فلسطينية، على وجه قطعة قماش أسود، ليسأل القارئ العربي المتعافي من الهوموفوبيا: “كيف استطاع ذلك؟” وأقول المتعافي لأننا جميعًا، أصبنا بها، بعضنا تعافى، وبعضنا على الطريق، وبعضنا الأكثر لا يزال مريضًا بها ونراه يقوم بما قيل عن عرب ما قبل الإسلام في وأد البنات.
لا تقرؤوها
يبدو عباد يحيى في هذه الرواية عارفًا بقارئه، متوجّها إليه بدراية، ويستعمل المحظور بطريقة تسلسلية متدرّجة، لذلك كان من الطبيعي أن تظهر بعض المقاطع فجّة وجنسيّة في حال اقتطعت من سياقها، لكنّ السؤال يبقى دائمًا، هل كان استعمال الجنس في هذا العمل، بهدف خلق اقتتال مجانيّ مع المجتمع؟ أم أنه استُعمِل بطريقة دراميّة مشهديّة تفيد البناء الحكائي وتثريه، بل إنه يبدو ناقصًا من دونه؟ جواب هذا السؤال سهل جدًا على من قرأ الرواية، لذلك، لن أجيب عليه لمن لم يقرؤوها، بل أقول لهم: لا تقرؤوها، إنّها رواية مخيفة، مرعبة، تدعو إلى التفكير واستعمال العقل ككل أدب حقيقي، وتختبر المشاعر، وتعرض حقيقة أريد لها أن تغيّب، هذه رواية تشبهنا وتشبهكم، ستجدون أنفسكم فيها مفضوحين، عارين تمامًا، لذلك لا تقرؤوها.
.