وائل سعد الدين.
الساعة الثانية عشر ليلاً خلف مشفى الرازي/ بداية المزة بساتين/ منزل أبو ماهر/أواخر تمّوز 2004م
غرفة بلا طلاء ولا برّاد. إفلاسٌ سيّد الأحكام والإحكام. جوع لئيم، وهوسٌ بألفيّة من الكحول يستحوذ على المساحات الصغيرة العاملة في دماغينا، أنا وصديقي الصعلوك الممسوس الخمسينيّ النحيل صاحب الصوت المجروح أبو ماهر، وخلفية موسيقية بلا أي سبب أو معايير منطقية تنبعث مرتجفة من مسجلة الكاسيت/الراديو الفضّية الصغيرة ذات السماعتين السوداوين المقشورتين والأنتيل الطويل: “على رمش عيونها قابلت هوى” بصوت ربيع الخولي.
رائحة الصبّار تستحوذ على الأوكسجين المرهق بروائح سهرة الأمس. إنّه موسم الصبّار، فعدد غير قليل من البيوت المنتشرة في هذه العشوائيات يعمل في بساتين الصبّار الملاصقة للحيّ، وجارتنا أم سمير وبناتها الأربع مازلن يقشرن الصبّار حتى هذا الانتصاف الليليّ استعدادا لوقوف جديد طويل تحت شمس الغد الحارقة يقوم به أبو سمير خلف بسطته الملوّنة على المتحلّق الجنوبي.
أرى الشرَفَ الأعلى إلى عينَيْ أبو ماهر اللامعتين مسلّمًا وهما تحدّقان في قنينة الغاز الصّدئة المركونة في زاوية المطبخ/ المنفردة حتى كادتا تثقبانها من شدّة التركيز.
- أتودّ أن تسهر سهرة جيّدة؟
- نعم أودّ.. أتمنّى
ينتفض أبو ماهر ويمشي بثقة محارب إسبارطي مقتحمًا كثافة الهواء باتجاه قنينة الغاز. ينتشل السكّين الوحيدة الملقاة إلى جانب كيس النايلون الممتلئ بأنصاف ليمونات عصرناها ليلة الأمس بعناية، ثم يمسك خرطوم الغاز الممتدّ بين القنينة والغاز الوسخ ويذبحه بخفّة لا أقوى على وصفها، ورشاقة لا تُحتمَل.
- أصبح لدينا ألفًا وخمس مائة ليرة، ولكن أنت من سيحمل القنينة!
- لا تقلق.
حملت ُقنّينة الغاز كما تحمل الأمّ طفلها الرضيع، واتّجهنا إلى منزل العمّ أبو سامي بائع الغاز في الحيّ. حارتان فقط كي نقبض ثمن القنينة وتكون هذه الليلة ليلتنا. وصلنا. إلّا أنّ العمّ أبو سامي خرج -بعد أن طرق أبو ماهر الباب خمس مرات- بكلسونه الشرعي، ووجهه المتجهّم كسيارة الجيب واز، وأبى أن يدفع أكثر من ألف ومئتي ليرة، فالوقت سيّد الأحكام، وهذا مجالٌ قد ركبنا طريقهُ، وكان الذي كان.
يرفع أبو ماهر يده بثقة وبطء سادة القوم، ويؤشّر بسبّابته لسيارة أجرة. نصعد إليها ويسأله السائق -حيث جلس إلى جانبه- عن الوجهة، فيشير إلى الأمام دون أن ينبس ببنت شفة، فأتدخّل وأطلب من السائق بلطف بالغ أن يقلّنا إلى أوتوستراد المزة مبدئيّا.. يا الله، نحن الآن نرتفع عن مستوى الأرض في مزّتنا، مزّتنا التي نعرف عدد بلاطات الأرصفة في أوتوسترادها، ونحفظ الحفر والمزاريب والزوايا والخفايا في امتداداتها وأزقتها وحاراتها الخلفية!
ليتر فودكا نقيّ كمياه نبع. نصفه في كأسين بلاستيكيين من (الغضبان/ البريد) ونصفه المتبقّي في كيس نايلون أسود، بدأنا الشرب في السيارة ومن ثمّ إلى مقبرة الدحداح! ننزل من سيارة الأجرة، وعيناي تجحظان في وحشة المكان كعيني ضفدع.
- لماذا المقبرة ؟
- هنيئًا للذي يلهو به يأسٌ ويحرسه رماد غادرٌ ويقول للموتى صباح الليل.
- لا ينقصنا الشعر. أرجوك
- الموتى لا يزعجون السكارى، والأحياء مصيبتنا الوحيدة، ونحن في منزلة بين منزلتين.
أبو ماهر كائنٌ رهيب. ملامحه القاسية تشبه الشام، وقلبه الطيب يشبه هواءها، وصوته المجروح يشبه تاريخها الطويل. تتفلّت من لسانه جملٌ غريبةٌ دائمًا، يصعبُ عليّ نسيانها ما حييت. قال لي بعد أن أنهينا الليتر حدّ لحس فوّهته على جدار المقبرة: دمشق أقدم مدينة مأهولة في التاريخ؛ يعني دمشق أكبر مقبرة في العالم!
يأخذني أبو ماهر إلى قهوة المشرّدين في المرجة. إلى بائع سندويشات “الفشّة” بعشر ليرات وكأس الشاي “أبو خمس ورقات” ويمارس عادته الأنيقة بلعب القمار على خمس وعشرين ليرة بطاولة الزهر، وافتراس ملامح الفقراء المجتمعين في هذا القاع. لقد خسر في ثلاث ساعات مائة وخمسًا وسبعين ليرة. يهمسُ في أذني:
نحنُ نملك مالاً اليوم، ومن غير اللائق أن نعطي هؤلاء الطيبين التافهين مالاً كصدقة، ما أفعلهُ الآن يفي بالغرض، ويمنحهم انتصارًا على الحياة الرخيصة التافهة التي تشبههم. يقهقه ويعود إلى حكّ طبلة أذني:
الفقراء ينتصرون على الفقراء فقط!
*هامش :
- جرف النظام السوري بساتين الصبّار كاملة عام 2012 بعد محاولة مجموعات من “الجيش الحر” التسلل عبرها إلى حيّ المزة.
- حرق النظام منزل أبو ماهر في نفس الفترة إضافة إلى حرق ونسف الكثير من البيوت المجاورة.
- يعيش أبو ماهر متشرّدا في إحدى الدول المجاورة لسوريا، وسجن أكثر من مرّة في قضيّة “سُكْر علني”.
*شاعر سوري.