عمار جرعتلي (12 عامًا)
حملت علبي، وغادرت البلاد كسائحٍ تائهٍ في صحراء، لم يكن معي سوى حقيبتي وداخلها علب ، علبةٌ مليئة باللطف، وأخرى فيها قليل من المسامحة، وعلبةٌ ثالثة فيها رشّات من العدوانيّة، ربما أحتاجها للدفاع عن نفسي.
مشيت حائرًا كأمٍّ أضاعت طفلها، حتى ظهرت بالأفق شاحنةٌ غربية الشكل، صعدت إليها وجلست بمقعدي خائفًا كغزالٍ في غابةٍ من الأسود. اختلست النظر إلى سائق الشاحنة، فبدت لي علبه التي يحملها على ظهره، علبٌ مليئة بالحقد وعدم المسامحة والبغض، ولم يكن لديه سوى علبة صغيرة فيها رشات من اللطف، والتي ربما لن يستخدمها أبدًا.
اقتربت منه دون أن يفتح كلانا علبه، لأننا كنا خائفين من اختلاف علبنا، بعد دقائق من الخوف (العلبي) فتح السائق علبة حقده وقال لي: “أنت لست سائحًا ولا تائهًا بل صاحب علب نادرة ومختلفة”.
قلت له بصوتٍ مرتجفٍ خائفٍ: “هناك الكثير من العلب في هذا البلد”، فهز رأسه موافقًا وقال: “هناك علبٌ متدينةٌ، وعلبٌ متحررةٌ، والكثير الكثير من العلبِ التي تعتبر نفسها هي الصحيحة فقط، وأخيرًا هناك علبٌ نادرةٌ جدًا مثل علبكَ التي تحملها”.
كانت هذه الأرض مثل كعكةِ الميلاد، الشموع تنيرها، وأجراس الكنائس تقرع، وأصوات الأذان تسمع، حتى أتى قلم تخطيطٍ أسودٍ غليظ، وبدأ بكتابة أسماء العلب، فبدأت العلب تنظر باستغرابٍ لبعضها البعض وأخذت كل واحدة تصرخ بالأخرى، علبةٌ تقول أنا ليس لدي وطن، وأخرى تقول ليس لي رأي هنا، وواحدة تقول أنا جائعة، وواحدة تقول أريد أن أتنفس، وواحدة تقول أنا أكرهكم، وواحدة تقول أنا مثلي مثلكم وأخرى محايدة.. عندها جاءت علبة الغباء ورشت محتواها عليهم.
بدأت العلب بعدها بفتح أغطيتها وإخراج ما بداخلها فخرج الحقد، الكره، الدين، العنصرية، السياسة، التعصب.
أما بعض العلب الجيدة خافت أن تفتح أغطيتها فهربت، وتركت العلب تتقاتل مع بعضها، وبقيت سوريا كإنسانٍ حزينٍ، بيوته كالأسنانٍ مكسرةٍ، مسوسةٍ، تحتاج إلى تقويم، وعيونه سافرت إلى البعيد فلم يعد يرى.
أما العلب أخذت تقفز على هذا الإنسان وتنهش لحمه ولم يعد يستطيع المقاومة مثل غريق أنهكه التعب رغم السيرومات المغروزة في جسده، فوقع على الأرض وهو يستغيث طالبًا ممحاة تزيل ماكتبه القلم الغليظ الأسود.
رجاءً اتركوا علبي ولا تكتبوا عليها.