فرح يوسف.
الساعة التاسعة والنصف صباحًا، والمعلمة تحاول أن تفسّر لنا أهمية التحدث بصيغة الجمع مع الغرباء والكبار وأصحاب المراتب الأعلى منّا.
أضحك.
إنّ هذه قاعدة سهلة جدًّا، اعتدنا في بلادي التحدث بصيغة الجمع هذه، فقد متنا جمعًا، ونزحنا جمعًا، ونُهبنا جمعًا، وجمعًا تبعثرنا لاجئين.
الكبار؟ لا أعرف كيف أشرح لها، أننا صرنا نولد برؤوس مشتعلة شيبًا، ولا شيء من كريمات التجاعيد الأجنبية يبدو نافعًا في ملء أخاديد أرواحنا.
الغرباء؟ نحن لا أقرباء لنا، إننا غرباء في هذه الأرض أينما حللنا، وأولئك الذين كنا قد رفعنا كلّ أشكال الكلفة معهم، غادروا.
أصحاب المراتب الأعلى؟ أعتقد أن موتك برصاصة قناص القصر البلدي يجعلك في مرتبة أعلى منّا، بالمناسبة، كيف حالكم يا عامر؟
الشهر الأول من السنة، اليوم الأول من الدوام المدرسي بعد إجازة الأعياد، لهذا اليوم رائحة الدهان الجديد، مهما حاولت الغابات ومطر الليلة السابقة استبداله، إن له رائحة الدهان المخدّرة، لماذا؟ قبل عصر الـ “وايت بورد” البارد كانت إدارة المدرسة تستغلّ الإجازة لإعادة طلاء سبّورات المدرسة الخشبية بالزيتي الغامق البهيّ.
الشتاء والريف الفرنسي الهادئ ليسا صديقين للسوريّ الفارّ من الحرب، أدرك هذا كوني هربت من كلّ جيوش الأرض في بلادي لـ “يستفرد” بي جيش الذكريات هنا.
عندما كنت في الابتدائية كان لي حلم غريب، كنت أحلم بكتابة الكلمة الأولى بإصبع الطبشور الأبيض على اللوح المطلي حديثًا، أن تكون الكلمة الواضحة على الخلفية النظيفة بخط يدي أنا.
إنّه حلم غريب لطفلة في السابعة، في العام الماضي كنت أسترجعه في المكتب البارد لأحد المدرّسين في جامعة حلب، كنا خمسة من طلاب الدراسات العليا، كانت أصابعي على وشك السقوط من البرد، وكنت أرى الكلمات تتكسر خارجة من فم المدرّس المتعجرف، والقائد يرقبنا من علٍ عبر الإطار الخشبي المهترئ، وكانت الوحشة تأكلني في ذلك المكان.
اليوم أتذكره وأنا أدخل ثانوية المدينة الصغيرة التي نُفيت إليها، على الباب مجموعة صغيرة من الفتيات، يخلعن حجاباتهن قبل دخولهن، كما يتطلب القانون الفرنسي، ولا انتباهًا فائضًا عن الحاجة ليستعرنه، أذكر العيون التي كان تتبعني في بلادي وأنا بكامل العتاد الشتوي، وأتحسّر.
إنّها واحدة من مدارس المدينة، استعارت من الأبجدية سبعة أحرف بعدد مبانيها، وكان عليّ الاستعانة بخريطتها لإيجاد المبنى المطلوب، أجل تحتاج لخريطة في كل مبنى من مباني هذه البلاد، والصف كبير، كأن كلّ شيء في هذه البلاد مصمم ليجعلك تشعر بالصغر، متأخرة ربع ساعة، فمن الصعب أن تصل في الموعد حين يكون عليك المشي على الأرض المكسوة بالصقيع ساعة كاملة.
طاولات بِيض وأضواء بِيض كئيبة، جدران بِيض مملة، وليست مكسوة بشخابيط التلاميذ، وسبورة خشبية زيتية غامقة، وفي الحال أشعر أنني صنعت صديقًا، وأشعر بها تهمس لي “تنفسي”.
المعلمة لطيفة، لها شعر أشقر قصير، وقامة صغيرة، لها ابتسامة دافئة، وممتلئة لآخرها بالحياة، إنها “كيوت” جدًا، حتى تجاعيد وجهها “كيوت”، في الحقيقة إنها تجسيد فعلي لـ”الكيوتنس”.
تبتسم، وتخبرنا أنها لا تحب مظهر “بابا نويل” في الصف، انزعوا معاطفكم، والأوشحة، انزعوا قبعاتكم بالتحديد، أنا لا أرتدي أي قبعات، ولم أحب القبعات يومًا، “إننا في بلد علماني وعلى الرؤوس أن تُكشف” تقول، حتى إن لم ينفذ الضوء للأفكار القاطنة الرؤوس.
أذكر أيام تشرين البعيدة، الأبعد مما يمكنني التصريح عنه، خصوصًا أنني اخترت أن أثبت في الوقت الحالي عند الحادية والعشرين، هواء الخريف، وأمي على الشرفة المحاطة بالزجاج، تراقب القبعة الصوفية على رأسي وتضمن ألا أنزعها، رغم قناعتها الكاملة أنني سأنزعها بغضب عند الدرجة الثانية من درجات باص الابتدائية.
أنظر إليها وأنا أفك وشاحي الطويل، لقد أصبحنا زميلتين، وأفكر أنّ تلك الغرفة الزجاجية في بيتنا القديم، كانت لتكون مخزنًا هائلاً من الشظايا في زمن الحرب، وقتها كانت مجرد مخزن للنظرات النارية التي تستر حبًا غير محدود.
هذا اللوح الخشبي مختلف، إنه قابل للطي بمفصلات حديدية، بإمكان المعلمة أن تطويه على نفسه فيعود نظيفًا، وبإمكانها تعديل زاويته ليتمكن جميع الطلاب من الرؤية، وبطريقة ما كلما مسحته يعود جديدًا، إنه عمليّ جدًا، وجميل جدًا.
كم هو بائس انبهاري بسبورة خشبية بدائية! لكن هذه ليست مشكلة، فالصف يجمع كلّ بائسي الأرض، أفغان، باكستانيين، مغاربة، فلسطينيين، سودانيين، جميلات أنغولا، والسوريين.
تسأل عن جنسيتي، “سوريّة”، “سوريا، يا له من بلد جميل، من المؤسف أنه فيه حربًا”.
تستأنف بالسؤال عن حالتنا النفسية، تبدأ بنفسها، إنها حزينة لأن ابنها سافر فور انقضاء إجازة الأعياد، لكن c’est la vie، إنها الحياة، وأود أن أقول لها إن للحياة تعاريف وأحوالاً كثيرة، ولا أقول.
نجيب على سؤالها: متفائل، متشائم، طيّب، قلق، خائف، جميل، مصدوم، حالمة، وأنا حزينة، تقول لي: لكنّك مبتسمة، في الغالب أنت مصابة بالنوستالجيا فقط.
فقط؟ أود لو أشرح لها أنني سمعت صباحًا في راديو بلادي شابًّا يصف سنّ اليأس، “إنّه أن تبقى جنديًّا في الحرب ستّة أعوام”، ستفهم الحزن وإن لم تفهم لغته، لكني لا أشرح، تريد أن تكتفي بابتسامتي، وأعطيها ما تريد.
هل ذكرتُ أن لهذه المعلمة اسم أمي؟ تسأل المعلمة أمي إن كان لها أصول روسية، فعندهم في روسيا “ناديا” اسم محليّ شائع.
إذن، هذا هو وقع الصاعقة.
لا أدري كيف تحوّل وجهها الهادئ الحيوي في عيني، واسودّ قميصها البيج، وكبرت ألف عام حزنًا على ابن لها.
أشعر أني خنت نفسي، عليّ أن أتخيلها بأنياب ومخالب، عليّ أن أكرهها، وأشمّ رائحة الموت في بلادي منها، لماذا يختار ذهني أن يُنجب لها ابنًا، ويشحنه إلى الحرب، ويُلبسها حداده، ككلّ الطغاة؟
إذن، لَم أتشوه للحدّ الذي يجعلني أكره امرأة خمسينية لطيفة، تحمل اسم أمي، لأن قائد بلادها استحلّ سماء بلادي؟ لكنّي تشوّهت إلى الحدّ الذي يجعلني أخجل بدرجة تشوّهي؟
أي بؤس هذا؟ وهل هذا قدرنا الآن؟ أن نوازن تشوّهنا، ونُهادن عُقدنا، ونقيس مشاعرنا بالمسطرة كي لا نستحيل في غمرة قتالنا إلى نسخ قبيحة من أعدائنا؟
الشيء الوحيد الذي أعرفه الآن، أنّ هذا الإصبع من الطبشور الأبيض ليس كافيًا، وهذه السبورة عملية وجميلة، لكنها ليست مطلية حديثًا، والكتابة عليها بخط يدي، لا يشبه ما حلمت به، إطلاقًا.