ياره باشا
لأجل رغبة صغيرة بإحراق المنزل ومن فيه، يجلس صديقي الآن في غرفته، ولا يخرج منها إلا لقضاء حاجة، يعيش على المهدئات ومضادات الاكتئاب ويرفض أن يقابل أحدًا، الجميع يخاف عليه من أن يقتل نفسه، يراقبونه من بعيد كما لو أنه طفل سيسقط في حفرة ويؤذي نفسه، صديقي لا يحب الشمس ويكره أن يسمع أصواتًا، كل الأصوات عنده متشابهة وتذكره بصوت واحد فقط، دوي رصاصة تستقر في رأسه..
لأجل رغبة صغيرة أيضًا حاولت صديقتي أن تحدث ثقبًا في صدرها مرارًا، كانت تودّ بشدة أن ترى قلبها، أن تتعرف على هذه العضلة البائسة، أن تعرف لونه وعدد نبضاته كانت كلما أشارت إلى قلبها، شعرت بوخزٍ غريبٍ لتقول بحزن وتشيح بنظرها:
لا أفهمه، لو أفهمه فقط، يختنق شيء ما في جوفي، ولا أستطيع أن أنقذه أو أنقذ نفسي. أمس، أتت مسرعة وهي تحمل قلبًا بين يديها، كانت ترتجف خائفة، وتصيح: لقد قبضت على حزني، لقد قبضت على حزني، لكن ماذا سأفعل الآن؟
لأجل رغبة صغيرة أيضاً، ولدت أنا في يوم شتائي عادي وبارد، اسماني والدي ياره، وياره باللغة الكردية تعني الحبيبة. ولدت بمجار دمعية مغلقة، كنت أبكي دون دمع، كان الأمر أشبه بصراخ خالص، صراخ نقي، خضعت لعملية في عيني بعد ستة أشهر من ولادتي، لأجل أن أبكي فقط، وحين أخبرتني أمي بالأمر، حزنت وتمنيت لو أن تلك العملية لم تتم، ربما حينها كان كل شيء ليكون أخف وطئًا وثقلاً، حتى هذا الحزن ربما، وكمن لم يعرف البكاء مطلقًا أقف الآن عاجزة أمام كل الرغبات الصغيرة التي تربكني.
لأجل رغبة صغيرة أيضًا قد أُحرقت مدنٌ بأكملها، وتحولت البلاد لمقبرة كبيرة لطحن القلوب والرئات، نحن الذين يجمعنا الموت، نعرف أن الموت يمكن أن يأخذ صفات كثيرة منها المسافة التي تكفي لمنع رائحتين قريبتين من الالتقاء..
مع كل هذا، هناك الآن من يعزف البيانو هذا الصباح في الشقة المجاورة، غير مكترث بالحياة هناك في الخارج. بينما أفتح عيني وأفكر بالمدينة البعيدة المحترقة، وبالرجل الميت الذي تركته للأبد، يكتب أشعارًا لن يقرأها أحد، عازفة، أو عازف البيانو، هذا، لن يدرك حجم التداعيات التي تحدثها أنامله في داخلي، هو الآن منسجم مع موسيقاه، يتماهى مع آلته ليصيرا كتلة واحدة متماسكة، بينما أنا أتفكك كل لحظة إلى ذرات لا متناهية.
تمنيت لوهلة لو تمثّل وجودي على شكل نوتة موسيقية، واحترت بين الصول و الدو، ترى أيهما أقسى وأشد حزنًا؟ صار مضحكًا هذا التكيّف مع الحزن كما تتكيف مع جلدك ولون عينيك، ولأنه يتوجب علي أن أتعامل مع كل هذا كل يوم، في الصباح والمساء، وبينما أنام، وألا أنتحر في نهاية الأمر لأن ذلك سيحزن أمي، أهرب فقط، أهرب مثل كلب مبلل تركله الأقدام، أهرب وأنا مدركة أني لم أهرب يومًا..
يمكنني أن أتكلم كثيرًا عن أي شيء، عن كل تلك التفاصيل العادية، وحتى تلك السخيفة، في حين تمتص آخر الأشياء نهاياتها على نحو دائم، وتتجلى عدمًا. وبينما أشكو عدم فهمي للأشياء، بينما أسأل على نحو دائم: كيف تبدأ؟ وكيف تنتهي؟ يبقى السؤال عالقًا على وتد في الفراغ. يثقب الخاصرة ببطء، ليترك بعدها ألمًا مريحًا، مازلنا قادرين على الشعور بالألم رغم كل هذا.. كم هذا رائع.
يمكنني أن أتكلم لأقول:
إن الوقت يقفز بخفة على هواجسي، وإن الأغاني الحزينة تثير بي الضحك، كما لو أنك تقوم بدغدغة حزنك بهذه الطريقة، لتجعله يضحك بشكل هيستيري حتى ينقلب على ظهره.
اكتب عن حزنك الذي تحبه، اكتب له كأنك تصرخ أمام وجهه وتعريه، كأنك بذلك تفضحه وتمسكه من قلبه، ثم أحكم إغلاق أصابعك عليه، واهرع إلى الشارع، توقف بين الجموع واصرخ: وجدتها وجدتها.
يمكننا أن نجد كلامًا دائمًا لنقوله حتى لو لم يكن مهمًا، حتى لو كان سخيفًا، هو تدريب مستمر للصوت على النطق، هو ذلك الهروب من الصمت والسكون، لأجل الدفاع عن وجودنا، خصائصنا، وربما لأجل ألا ننسى أن لنا حناجر مخنوقة بالصراخ، وأننا نرغب أن نقول أحيانًا إننا نحب العناقات الطويلة، خاصة تلك التي لا فكاك منها وإننا نكره الوداعات، وتربكنا إلى الحد الذي لا نستطيع أن نتعامل عنده معها، وإن الحياة بكامل وسعها لن تحتمل منا أكثر من تلك الرغبات البسيطة.