د. مازن أكثم سليمان*
ليست الكتابة سوى فعل تحايُل! هكذا ببساطة هيَ التفاف على سيولة الوجود في العالم عبر فتح عالم جديد ليس أقلّ سيولة. بهذا المعنى يكون التحايل فعل تغيير بوصفه يُزيح ويُحوِّل ويُغيِّر، وبهذا المعنى أفهم مقولة هيراقليطس: “إنَّ المُعلِّم في معبد دَلف لا يُظهِر ولا يُخفي: إنَّهُ يُحيل ويُشير”.
تساءلتُ مرارًا وتكرارًا منذ بداية الثورة السورية، ثمَّ تحوُّلها إلى حرب ضروس عن معنى أن أكتب، وما الدور المنوط بالكتابة في ظلِّ حركيّة صراع “إرادات القوى” على الأرض حسب تعبير نيتشه عن أصل الحقيقة.
في هذا الإطار علَّمتني تجربة السنوات الأخيرة أنَّ فعل التحايل الكتابي يتضاعف مرات ومرات عندما يقيم الكاتب داخل خندق الخطر، ذلك أنه مُطالَب بوصفه إنسانًا أولاً بالوجود والصمود والاستمرار في عالم الحرب الوقائعيّ، وهو الأمر الذي يحاصره ويستبيح كيانه بعنف، ومُطالَب بوصفه كاتبًا ثانيًا أن يتمكَّن في قلب هذا الحصار وتلك الاستباحة أن يخلق مسافة رؤية زمنية تسمح له بخلق وجود جديد ومُغاير في عالم النص الذي ينبغي أن ينأى بنفسه قدر المُستطاع عن وهم المحاكاة الحَرْفيّة، والانفتاح وجوديًّا إلى الحد الأقصى ليكون وثيقة فنية تتجاوز راهنيّة الأحداث، ولا تكون عبئًا عليها، وهي المسألة التي تتحقق بجملة انعطافات دلاليّة تفيض بالجدّة والجمال، وهذا هو أسّ التحايل.
أن أتحايل في الحرب -وعلى الحرب- يعني أن أهرب في اللغة وباللغة مثلاً من مطابقةٍ ساذجة مع حركة الشباب الهاربين من التجنيد أو المطلوبين إلى الاحتياط. أن أتحايل في الحرب -وعلى الحرب- يعني أن أحوِّلَ فكرة انقطاع التيار الكهربائي مثلاً إلى سردية ثانية تزيح الدلالة من راهنية المدلول لفتح الدال على ما يتجاوز معنى المولِّدة أو المازوت أو البطارية أو اللّدّات. أن أتحايل في الحرب -وعلى الحرب- يعني ألا أبقى عند سطح الألم الفادح الذي تسببه أمّ تجلس في برد كانون على طرف الرصيف وحولها ثلاثة أطفال طالبةً الإحسان؛ إنّما أن أصنع لها جناحين، وأن أمدَّ أطفالها بألعاب مجازية مُبدعة. أن أتحايل في الحرب -وعلى الحرب- يعني أيضًا أن أنحرفَ بكُلِّ طرقة على باب المنزل لتصير نبض قلب يتسارع خوفًا ليس من فخّ دوريّة أمنية؛ إنّما من فخّ لغة قد تعجز بفعل طغيان الآنيّ الرّاهن عن فتح مفازات النص نحو فيضان أشيائه غير المحدودة.
حاولتُ في أحلك فترات الحرب أن أنتقل من بِنية (الحرب لغة) إلى بنية (اللغة حرب)، وعلى وقع الغارات وقصف المدفعية وراجمات الصواريخ والقذائف العشوائية والسيارات المُفخّخة أنجزتُ بحث الدُّكتوراه، وذلك في تناقض صارخ بين جموح البحث باتجاه المناهج النقدية والفلسفية المُعاصِرة، وانتهاك أبسط شروط الآدميّة في الواقع المُحيط!
نجوتُ أيضًا من ثلاث قذائف عشوائية، آخرُها سقطَتْ شظاياها على الكرسي الذي أجلس عليه في الشرفة، ولسبب قدَريّ غامض انشغلتُ على الإنترنت في تلك اللحظة. شاهدْتُ بأمّ عيني حوادثَ مرعبة، كإسعاف رجل لطفل أصيب للتو بشظايا قذيفة، وأمُّه تجري وراءه وهي تصرخ صراخًا هيستيريًا مازالَ يتردد صداه داخل جمجمتي حتى هذه اللحظة. شاهدْتُ أمام نافذة مطبخنا شابًا مستلقيًا بلا حراك وسط بركة دم على إسفلت الشارع بعد سقوط قذيفة. كما لا أنسى منتصف ليل أحد أيام الصيف عندما سقطَتْ تلك القذيفة الغادرة على شرفة جيراننا وتسبَّبتْ بوفاة رجل وطفل وإصابة امرأة كانوا في سهرة عائلية يدخنون النرجيلة.
هذا غيضٌ من فيض، وبالتأكيد لكلّ سوري حكاياته الكثيرة والمفجعة، فجميعنا نلعب في هذه الحقبة لعبة الاحتمالات: ربّما جميعنا أرقام في حجر نرد كونيّ! لكنْ يبقى السؤال المحوري هُنا عن فعل الكتابة نفسه، وكيف نتعامل مع هذا المخزون من التجارب الفريدة والقاسية، وأين يبدأ الحقيقيّ أو المجازيّ وأين ينتهي وسط هذه المعادلات المُعقّدة؟
لا بدّ لمَن يكتب أنْ يُروِّض وحش الحدَث الوقائعيّ الذي يقتحم الذات بلا رحمة، ويُوجِّهُ ساحة الوعي واللاوعي كما يريد وبلا وجل. لا بدَّ من الإجهاز على أفعى المُسَبَّقات بآليات التحايل! نعم، التحايل من جديد، فعلى من يريد أن يكتب أن يتحاشى سلطته الذاتية المُسَبّقة التي تحضرُ عبر المُحاكاة السّطحيّة المُذعِنة لصراع إرادات القوى الوقائعية، علّه بذلك يخلق عالمًا كيانيًا حرًّا، وإلا شَحُبَتِ النّصوص وهَزُلَتْ. إنَّ التحايل ليس سوى إجراء مفاوضات ذكية مع المعنى، لا للقبض عليه، لكنْ للرقص مع حركته المُتوالدة والمُفاجئة باستمرار، فالكتابة ليست سوى وثيقة نفسها أولاً وأخيرًا، ولهذا ينبغي أن لا تسعى القراءة/الكتابة وفق رأي فوكو: “أنْ تردِّدَ ما قبل فتحاول بلوغه في هويته المتحققة، كما أنَّها لا تمحي في قراءة مُتواضِعة تفتح المجال لعودة النور البعيد في طهارته وضيائه؛ نور الأصل الذي كاد يزول. إنّما إعادة كتابة لا أكثر ولا أقلّ”.