هشام خداج | ناقد متخصص في الدراسات الثقافية والنقد المقارن
“لابد من موته إذن .. أما عني فما من باعث شخصي يدفعني إلى إسقاطه، إنما هو الصالح العام .. إنه يود لو نصبوه ملكًا. ولكن إلى أي حد يمكن أن يؤدي تتويجه إلى تغيير طبيعته؟ هذا هو السؤال .. إنه كبيضة الأفعى: متى أفرخت خرج منها ثعبان خبيث كغيره من الثعابين” بروتوس من مسرحية يوليوس قيصر: الفصل الثاني – المشهد الأول.
أخرج برغمان فيلم “بيضة الأفعى” سنة 1977، في ميونخ بألمانيا الغربية آنذاك بإنتاج ألماني – أميركي مشترك، فهو أول عمل له خارج السويد بعد خروجه من بلاده إثر ما حدث له في قضية تتعلق بالضرائب سنة 1976 “أقع ضحية الوشاية دون التمكن من الدفاع عن نفسي وحكمت علي محكمة لا تسعى إلى معرفة السبب الحقيقي … كل شيء كان منظمًا، مدروسًا محللاً بشكل مثالي وقد قام بذلك أناس أكفاء … عقدة القضية ليست هنا. المشكلة هي في طريقة ردة فعلي الصبيانية البشعة معطياً الحق لمن يوجهون إلي الاتهامات. إنه شعور خطر ينبثق من مخاوف طفولتي المعتمة. لقد قمت بعمل سيء. لا أعي أنا نفسي ما فعلت. ولكنني أشعر بأنني مذنب، يحاول عقلي أن يعقلني، ولكن دون جدوى بقي الشعور بالخزي ملتصقاً بي يدعمه شعور بأنني قد وسمت علناً بحديد كاوٍ”. تلا ذلك سلسلة طويلة من الأحداث انهيارات عصبية وأطباء ومصحات وعقاقير، سيناريوهات قيد الإنجاز وأفلام على شاشة العرض. كل ذلك دفعه من الناحية العملية تجاه إنجاز الفيلم الذي كان يحلم به، يتحدث في مذكراته عن تلك الفترة لا بوصفها حكاية عبرت خياله الساحر لكن كمأساة كان ينبغي لها أن تحدث، أو ربما القدر كما تسميه ليف أولمان “فالإنسان يحمل قدره داخله، وقدر الإنسان لا يتأثر بهذا النوع من الفشل أو النجاح”.
حديث النقاد عن بيضة الأفعى حكاية عن الفشل، لكن برغمان اعتقد حتى آخر لحظة أنه صنع تحفته الفنية، إمكانيات مادية وبشرية هائلة وضعت تحت تصرفه، وتحدث في مذكراته عن كل ذلك كما أنه روى أجزاءً من تقنيته في خلق المشاهد البصرية، وآلية بحثه في الموضوع، كتب يقول: “في عدد قديم من مجلة سمبليسيوس يعود إلى سنة 1923 (سعره آنذاك خمسة مليارات مارك) اكتشفت رسماً بالفحم شديد الإيحاء يمثل شارعاً في برلين وحركة السير الكثيفة فيه لحظة الغسق الشتوي وكنا قد قمنا بجولة استطلاعية في برلين كما في مدن أخرى في الشرق والغرب من أجل اكتشاف أماكن تصلح للتصوير. ولكننا لم نجد أي مكان يمكن أن يتساوى مع ذلك الشارع المرسوم بالإضافة إلى كونه يدعى شارع برغمانشتراسي (شارع برغمان) وبعد مداولات مريرة استطعت إقناع المنتج ببناء الشارع بأكمله في ورشات شركة بافاريا بما في ذلك سكك الترامواي والباحات الخلفية والأزقة والبوابات. كلف ذلك مبالغ خيالية”.
في مقابل ذلك كان رد الصحافة باردًا جدًا كما أن النقاد تحدثوا عن الفيلم كتجربة فاشلة، وحاول برغمان مرات عديدة أن يبحث في أسباب ذلك الفشل، فشل تحفته السينمائية حسب ما أراد، كتب في (المصباح السحري) يقول: “إن فشل بيضة الأفعى يعود بشكل أساسي لكوني أطلقت اسم برلين على المدينة في الفيلم واخترت العشرينيات كفترة تدور فيها أحداثه. لو أنني أعطيت شكلاً لمدينة أحلامي، المدينة غير الموجودة التي تظهر مع ذلك بحدتها ورائحتها وضجيجها؛ لو أنني أعطيت شكلاً لتلك المدينة، لاستطعت التنقل فيها بحرية تامة ودون منازع. وكنت أدخلت المشاهدين في عالم غريب ولكنه مألوف بشكل خفي. في بيضة الأفعى دخلت إلى مدينة لم يتعرف أحد عليها، ولا حتى أنا نفسي، على أنها برلين”. لكنه عاد ليكتب لاحقاً في (صور) “اليوم أعتقد أن ذلك الفشل كانت له أسباب أعمق بكثير”.
فما الذي فعله برغمان في بيضة الأفعى حتى لاقى كل ذلك الفشل الذي وصل إلى درجة أنه لم يجد من يمول له فيلم “حب بلا عشيق” الذي أنهى كتابته سنة 1978 “تكلمت مع هورست فيندلانت المنتج الألماني المساعد لبيضة الأفعى، ولكن تجربته السابقة معي كوته. كذلك رفض دينو دي لورنتس” ولماذا ظل يجادل في فشل بيضة الأفعى حتى جعل لسيناريو “حب بلا عشيق” مقدمة على شكل رسالة موجهة إلى أصدقائه وشركائه في العمل، يقول فيها “إذا ما ادعيت أنني كنت مدفوعًا بالقرف المشوب بالشهوة توحي لي بهما بعض أشكال السلوك الإنساني وتجرد السياسة عن القيم وانحطاط المشاعر، فإن هذا لا يغطي سوى نصف الحقيقة، إذ إنني في الوقت نفسه أشعر بالحاجة إلى إبراز وإيضاح إمكانيات الحب والغنى الذي تنطوي عليه كل لحظة وقدرة الإنسان على العمل من أجل الخير”.
وهنا يبدو بيضة الأفعى نقيضًا للأمل، بيضة الأفعى ليس حكاية عن الفشل وحسب لكنه متحف أيقونات فريدة للسقوط. أنين يصيب في مقتل، وهو بعد ذلك كله تشريح دقيق للسلوك البشري في جانبه المعتم، لقد أراد أن يقرأ الإنسان كشيطان، واختار لذلك فترة تاريخية خاصة إلى حد كبير هي فترة ما بين الحربين؛ إذ إن أحداث الفيلم تجري في مدينة برلين سنة 1923، في الوقت الذي كانت فيه ألمانيا مهزومة ومُذلة، محكومة من الخارج ومرغمة على التخلي عن أجزاء من أراضيها وكرامتها، في ذلك الحين كانوا يزنون الأوراق النقدية لشراء الطعام. كتب برغمان ملاحظة تعود إلى سنة 1975 بعدما أنهى قراءة سيرة أدولف هتلر “أسبغ التضخم سمات هزلية على الواقع ولم يتوقف عند حد القضاء على الأسباب التي تدعو الناس لتأكيد ثقتهم بالنظام السائد. لقد سحق كل إحساس بالاستمرارية، وعوّد الناس على العيش في مناخ لا يطاق. كان ذلك انهياراً لعالم كامل بمفاهيمه ومعاييره وأخلاقه. فنتجت عن ذلك آثار هائلة”. أحداث الفيلم في قلب الكارثة، المشاهد معدة بعناية فائقة لترصد كل ذلك إلا أن هذه المشاهد رغم فظاعتها لم تشر فعلياً إلى نهاية كل شيء، إنها تومئ بالخطر الأدهى، الكارثة الكبرى على وشك الحدوث، ليست هنالك من معجزات، وجد برغمان أن التأزم الذي يحكم الانهيارات الكبرى يجعل كل شيء ممكنًا بل حتى مقبولاً ويصبح الواقع أشد غرابة من الهلس فالألم يجعل الكائن متجاوزاً نفسه وراهنه “أسرتني صعوبة التحرك بشكل متوازن بين الفوضى والنظام. التأزم الذي تتصف به مسرحيات شكسبير الأخيرة نجده هنا، بالإضافة لأشياء أخرى كثيرة، في الشرخ بين عالم النظام والقوانين الأخلاقية والمعايير الاجتماعية وبين الانهيار التام. فوضى عارمة لا تقاوم تطغى على الواقع وتفنيه”.
في برلين 1923 يدخل إيبل إلى حيث يسكن ماكس أخوه فيجده منتحراً بالرصاص تاركاً رسالة غامضة استطاع قراءة عبارة واحدة “هناك سم يتحلل في الأشياء من كل جانب” إيبل يقضي الوقت متسكعًا في جحيم المدينة ثملاً وحالته تزداد خرابًا كالمدينة التي يعيش فيها، بينما تعمل مانويلا التي كانت زوجة ماكس وتطلقا قبل انتحاره بسنتين في ملهى ليلي تشارك في عروض تافهة لتسلية زبائن الملهى. الدكتور فرغيروس واحد من الزبائن الذين قدمت مانويلا لهم خدمات جنسية مقابل المال يقدم لها مسكنًا ويؤمن لها عملاً كما أنه يساعد إيبل كي يعمل في الأرشيف. في المسكن الجديد لا يفارقهما الإحساس بالمرض، لا يستطيع أحدهما أن يحب الآخر، ردود أفعالهما صبيانية ومفزعة، يتشاجران ثم يعود ليعانق أحدهما الآخر دونما قدرة على الشعور، يخرج إيبل وعندما يرجع تكون مانويلا قد انتحرت، في هذه اللحظات يكتشف إيبل الكاميرات الموزعة في كل زاوية، ويدخل إلى مبنى الأرشيف حيث يلاحقه أحد ما فيضطر إلى قتله، ويصل أخيرًا إلى المختبر حيث يخبره فرغيروس كل شيء.
ليس من السهل معرفة كم الألم الذي ينطوي عليه الخداع، في المشاهد الأخيرة من الفيلم يكشف فرغيروس أمام إيبل حقيقة عمله وتجاربه ويخبره أنه كان جزءًا من تلك التجارب إلى جانب ماكس ومانويلا، فرغيروس يتحدث بيقين العلم يعرض نتائجه بتجرد ووضوح يصف انهيارات ضحايا تجاربه والآثار القاتلة للآلام التي تعرضوا لها ويتكلم على ردود الأفعال الهزلية كما يسميها ويفسر ذلك. بعد أن ينتهي ينتحر بالسم ولا يأبه أثناء موته إلا لرصد آثار السم حتى آخر نفس، لحظة يتحد فيها نصف وجه القاتل بنصف وجه الضحية ربما على نحو فيه من التهريج بالقدر الكافي لتدمير المخيلة، إنه حاد في إخلاصه لمعرفته العلمية، ينبغي أن يقتل نفسه فقد عرف كل شيء أراد معرفته ويقينه أن لا شيء يحدث من تلقاء نفسه، سيولد الثعبان ويصنع الكارثة ولن يفعل العلم شيئاً سوى تفسير حدوث ذلك “انظر إلى كل هؤلاء الناس، لا يستطيعون القيام بثورة، إنهم مذلون، خائفون للغاية، تتم معاملتهم بسوء، لكن في عشر سنوات، بحلول ذلك الوقت، من عمره عشرة أعوام سيصبح عشرين، ومن عمره خمسة عشر سيصبح خمسة وعشرين عاما. سيضيفون مثاليتهم ونفاد صبرهم إلى الكراهية الموروثة من والديهم، شخص ما سيتقدم ويحول مشاعرهم المدفونة إلى كلمات، شخص سيعد بالمستقبل، شخص سيتحدث عن المطالب، شخص سيتكلم على العظمة والتضحية، الشباب وخبراتهم سيعطون شجاعتهم وإيمانهم إلى المتعب والمتردد. عند ذلك ستكون هناك ثورة. وعالمنا سينهار في الدماء والنيران، في عشر سنين لا أكثر، هؤلاء الناس سيصنعون مجتمعًا جديدًا لا مثيل له في التاريخ، المجتمع القديم مبني على أفكار رومانسية بحتة، على طيبة الإنسان. إنه أمر معقد بما أن الأفكار لا تطابق الواقع، المجتمع الجديد سيبنى على تقدير واقعي، على قدرات الإنسان وحدوده. الإنسان هو تشويه وشذوذ للطبيعة، من هناك تأتي تجاربنا، نتعامل مع البناء الأساسي ونعيد تشكيله، نجعل القوى المنتجة حرة، ونتحكم بالقوى المدمرة، نحن نبيد ما هو وضيع ونزيد ما هو مفيد”.
المجتمع الجديد سيبنى على عدوانية الإنسان وانعدام ثقته، الإنسان المتألم يصير موته انعتاقًا من الألم، فهو يرتكب جريمة ليس لأنه فقد الثقة بالعالم فقط لكنه فقدها في نفسه، إنه لا يصدق شيئًا ولا أحدًا لأنه يحتقر نفسه احتقارًا مريرًا، الإنسان المعزول في سقوطه وإذلاله كارثة، يولد التطرف ليس من الجهل وحده وإنما من الخوف وفقدان الإحساس بالذات. أحد التجارب تصور امرأة في الثلاثين من عمرها تطوعت لتعتني بطفل عمره أربعة أشهر مصاب بتلف في دماغه فلا يتوقف عن الصراخ مطلقًا، الطفل لا يتوقف عن الصراخ ولا عن الألم، ولأكثر من اثنتي عشرة ساعة فعلت المرأة كل ما تستطيع للاعتناء بالطفل، آلامه أصبحت جحيمًا جعلها تفقد كل مبادرة بعد مضي أربع وعشرين ساعة، لم تعد تلتفت إليه وقد فقدت كل قدرة على الاحتمال، انتظرت ست ساعات أخرى قبل أن تقتله. تجربة أخرى تصور شابًا تطوع لتجربة أحد العقاقير، وهو طالب يدرس العلوم السياسية، المادة التي حقن بها تسبب آلامًا هائلة، يتحرك بشكل هستيري ويضرب رأسه بالجدران دونما تخدير، يحاول الانتحار لكن المسدس الموضوع قربه غير معبأ، بعد أيام من بطلان مفعول العقار ينتحر بإطلاق النار على نفسه، ويشير فرغيروس إلى إيبل أن انتحار ماكس كان لنفس السبب.
فرغيروس يشرح لإيبل أن تطوع هؤلاء ليس معقدًا، ولا متاعب في ذلك “الناس سيفعلون أي شيء من أجل قليل من المال وحفنة من الطعام” كل التجارب تصور بشرًا جمعهم أنهم لم يعرفوا ما الذي جرى لهم بالضبط وجميعهم تألموا حتى الموت. فالإنسان الجديد الذي ستخلقه الحياة بصورتها تلك سيكون الثعبان المثالي، التجارب المشبوهة هذه انعكاس لشكل الواقع المعاش فهو المختبر الحقيقي الواسع والمتنوع جدًا وكما كان فرغيروس يوصل أناس تجاربه إلى حدود هائلة من الألم ليرصد سلوك الإنسان إذ تنحط إنسانيته وتتجرد من كل قيد أو تصور، فإنه يعتقد أنه لا يقوم بشيء سوى محاكاة الواقع ولكن بتسريع ظهور النتائج، كان على يقين أن البشر في الخارج سيفعلون كل هذه الأشياء لكن ذلك سيستغرق القليل من الوقت. ولو نظرنا في الأمكنة التي تدور فيها المشاهد لظهر لنا بوضوح أن برغمان أراد أن يخلق فضاءً يكمل بعضه، متصل بدقة، وصلته الواضحة هي الإنسان، هناك مشهد في مطعم فاخر يأكل الناس فيه ويشربون ويتلقون الاحترام والتبجيل ويدفعون بالدولار الذي يمكن رصد معناه بوضوح فالدولار في الفيلم شخصية خفية تتكلم بصمت قاتل، في المقابل هناك مشهد لرجل وامرأة عجوزين يقومان بتقطيع لحم جثة حصان في الشارع، جو الملهى واحتقاره المباشر لإرادة الإنسان حيث تبدو كل الأفعال داخله قهرية وقد وصف الناقد دينيس ماريون المشهد الذي قدمته مانويلا (ليف أولمان) في الملهى بأنه “غاية في السخف” كان ذلك داخل الفيلم جزءًا من القهر العام في جو مشحون بانعدام القيمة، كانت تضغط مخارج الحروف الألمانية بفظاظة حتى بدت عاهرة تلقي خطابًا سياسياً عصبيًا ومكررًا بإيقاع مألوف وممل. بناء الأرشيف الضخم ومكتب المحقق يشبه عوالم كافكا المريعة والكابوسية ففي هذه الأماكن التي لا يعلم أحد متى وجدت تتجسد المخاوف، لأنها أمكنة مفتوحة على الأسئلة، هي مستودع أسرار لطالما كان مصدرًا للقلق. المختبرات تتبع مبان خاصة للكنيسة التي لم تستثن من الانهيار العام، مانويلا تلجأ إلى الكنيسة يأكلها الإحساس بالذنب تتحدث مع الكاهن بحثًا عن المساعدة ” هل هناك أي غفران؟ هل تريدين أن أدعو لك؟ هل تعتقد أن هذا سيساعدني؟ لا أعلم” فالدمار لحق بكل شيء ولن ينجو منه أحد. بيضة الأفعى كان حلمًا بالنسبة لبرغمان، ولم يخفق في جعله تحفة فنية نادرة كما أراد، لكنه في ما يبدو صنع فيلمًا لم يرض أحدًا لا شرق الجدار ولا غربه، وكان يحس في أعماق نفسه أنه لم يكن مضللاً حيال الفيلم، وكتب في مذكراته قائلاً “لم أشعر ولو للحظة واحدة بالندم على تصويري لفيلم بيضة الأفعى”.