علي جازو*
اسمحوا لي أن أبدأ كلامي بلعبة كلامية، وأرجو ألا تكون مملة. لدينا كلمتان: الفن والمنفى، هما عنصرا اللعبة البسيطة المعقدة في آن واحد، بعد إضافة اللعب إليهما.
سأستعير الألف الأخيرة من (منفى) وأعيدها إلى الياء التي هي أصلها، ثم ألصق الياء هذه بـ (فن). ما هي احتمالات القراءة هنا؟ أول الاحتمالات أن يصير (فن) إلى (فنيّ) صفةً، أو يتحول إلى (فَنِيَ) فعلاً ماضياً، والثالث هو (يفن)، أما الرابع فهو (نَفْيٌ)، واحتمالات لغوية أخرى عبثية! نحن أمام أفعال وصفات ومصادر.
كلمة (منفى) تمنحنا بدورها خيارات، منها (مَفَنُّ) أي المكان الذي يمارس فيه الفنان عمله، وكذلك أدوات النفي: لا، لم، ما، لن (تحيل إلى الحاضر والماضي والمستقبل). يمكننا وضع الفاء محل النون (مُفْنٍ) فنجد القاتل، لكن (مُفنٍ) تعني أيضاً تخصيص شخص حياته كلها لشأن ما: (أفنى حياته في كذا)، أي خصصها وأفردها لشأن بعينه.
في الحقيقة لم أكن أقصد اللعب فقط، فما أردت قوله من خلال اللعب أن المنفى متضمن داخل الفن كجوهر وليس كشيء طارئ أو دخيل، كما أن اللعب يحول المنفي من مشفق عليه إلى فاعل لاهٍ يزيل عن الشفقة طعمها المر، كي يعيدها إلى الفطرة، إلى الحس الإنساني المشترك.
لم يكن السوريون، الفنانون خاصة، في نعيم قبل ربيع 2011. ولا داعي لتأكيد ما بات واضحاً للجميع عن حال البلد/ المسلخ البشري. معظم الذين التقيت بهم هنا في برلين ومدن ألمانية أخرى، عبروا عن شعور بالاغتراب والعزلة قبل اضطرارهم العيش خارج سوريا. تأتي عزلة الفن عن حاجة خاصة، لكن عزلة قسرية أحاطت بعالم الفنون في سوريا، شيئاً أشبه بحبس الهواء نفسه، وهذا ما يجعل الخارج أو الداخل مجرد ظرفين حياديين إزاء شعور عميق وصامت أحياناً بعزلة لم تأتِ عن طريق اختيار تلقائي.
يبقى الفن وسيطاً، بين مكان مخصّص للعمل ومكان غير مختار للفناء. في الحالتين هو قائم على محلٍ خليطٍ، كما أنه على العكس من اللعبة، التي هي محض تكرار وتبديل لأماكن الحروف، ليس شأناً مجرداً عن محيطه رغم كونه تجربة حسية فردية للإدراك، وليس حقيقة يمكننا إفحام الخصم بها. لكن التجربة الفردية هي الحقيقة التي يمكننا نقلها للآخرين. معيار الحقيقة هذا ليس بياناً سياسياً ولا حجة أخلاقية ولا ذريعة اجتماعية، ذلك أن تحويل الفن إلى غاية بعينها ليس سوى بداية لنفي الفن بالفن نفسه، ومن هنا يمكن إيجاد رابط بسيط بين (الفن) و(المنفى) و(اللعب)، من دون تقديس أي منها على نحو مطلق.
يمنح الفن نفسه بسهولة، فهو بلا حاجز لغوي، أو هو قادم من حيز يسبق اللغة التي تتحول إلى حاجز وهمي وإلى محل لتنازع هويات أجوف وخطير.
لكن مجتمعاتنا لم تعد طبيعية، فأوهامها تأكلها مثلما تلتهم الحرب المدن والبلدات والبشر في سوريا، أو أن طبيعتها تتعرض لصنوف شتى من ضغوط تقلب توجهاتها على نحو سريع وغير مفهوم أحياناً. العفوي والطبيعي يلتقي مع الفني واللعبي، والفرد– الفنان هنا هو المكان الذي يُختبر فيه جدوى اللعب وجدوى الفن معاً. لكن التلقائية ليست متاحة، ولا هي يسيرة كما نحسب عادة. التلقائية تقتضي الحرية، انعدام الخوف، الحماسة، الشغف، وكلها أمور بعيدة بعد الأحلام التي تظل ملتصقة بهواجسنا ورغباتنا.
يهب الفن والعمل الفني الفرد كفرد الحياة والنمو، لكن مضمار هذا النمو ليس المدرسة، ولا الشارع، ولا صالات المعارض فقط. إن أمكنة اللقاء والتأثير تتجاوز النماذج المطروحة عادة، فالمدرسي والشارعي، المتناقضان ظاهرياً ربما، يعيقان انتشار الفن من حيث يحسبان أنهما يخدمانه.
لا شك أن للفن مجتمعاً، محيطاً وذاكرة، وكلها مجالات تأثيرات متبادلة ومتحولة، لكننا غالباً ما لا نلتفت للفن نفسه كمجتمع. أقصد الدائرة التي تعطي للفن والعمل الفني قيمة: القيمون الفنيون، المقتنون، النقاد والصحافة الثقافية، صالات العرض، والكتب الفنية المرافقة. كلها عوامل تحوّل الفن والفني، ربما تكبحه، أو تحبطه، أو تقدم له فرص انتشار واسعة.
فنانون سوريون وألمان يتشاركون العمل والأفكار، مع تجاوز حيز المنفى بمعناه السلبي الدارج، لتبادل الخبرة ولنشوء صداقات فنية وشخصية في آن واحد. ربما من المبكر الحكم على هذه التجربة الجديدة، لكن من المؤكد أن جديداً يولد. تقدّم برلين مثلاً فرصاً عديدة للتلاقي والتفاعل، ويتجاوز الأمر مجرد صيغ فنية، أو أعمال ذات صبغة مجردة وبأطر ضيقة ومؤقتة. يساهم الإعلام النشط ومواقع التواصل في رفد هذه الحركة بالحيوية والمتابعة والنقاش، حتى إن كان بأسطر قليلة أو من خلال تعليق بسيط. المهم أن طريقاً مفتوحة قد أتيحت للفن السوري كي يساهم في إثبات حضوره الحالي والمستقبلي في تحصين النفس الممزقة والإعلاء من قيمة الجمالي والفني، ودورهما الخاص في تقوية الحس الجماعي وإلغاء تصورات نمطية سلبية عن المهاجرين والمنفيين.
لنعد إلى اللعبة. أليست تكراراً، أم هي تحوّل حيّ؟ أليست العودة حنيناً إلى أصل حسبناه الحياة، البيت، والطريق إلى البيت.
*شاعر وكاتب سوري مقيم حالياً في برلين
إقرأ/ي أيضاً للكاتب: