بين اتساعٍ وتعميم، ظلّت الثقافة مصطلحاً توصيفياً حديثاً متأرجحاً، ليشمل كل المعارف والخبرات والعادات والتقاليد والفنون والآداب والعلوم بأنواعها، وما قد يضاف إليها من ثقافات مستحدثة، كالذي دفعت به العولمة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وتمركزت تلك الثقافات في مجال الاتصالات والميديا وثورة المعلومات وثقافة الوجبات السريعة والأزياء وكلّ ما يتبعها، من تغيّر في أمزجة الجيل وسلوكه ونمط حياته وتفكيره وما يعانيه من مشكلات، وبين تحديد للمصطلح وحصره بالنشاط الثقافي قراءةً وإنتاجاً مبدعاً في مجالات الفكر والفنون والآداب والعلوم الإنسانية عامة، بحيث يُخرج من دائرته هذه، وفقاً للمفهوم المتداول رسمياً وشعبياً ثقافاتٍ مجتمعية شعبية عامة، ترتبط بالوعي الاجتماعي وخصوصيات الثقافة المحلية ومورثاتها، والتي شقّت مؤخراً بعد طول تغييب طريقها، لتدخل في الفضاء الثقافي العام، وتغدو عناصر أساسية في منظومته الرسمية كالشعر الشعبي والفنون الشعبية وحكايا الفروسية والأساطير وغيرها!
المواطنة كتشارك بين مجموعة هويات ثقافية صغرى:
أما حينما نذهب بمصطلح الثقافة إلى ما هو شعبي ومشترك وعام، وإن ظهر بنسب متفاوتة بين فرد وآخر من أبناء الجماعة سواء كانت إثنية أو دينية أو غيرها، فنكون قد وصلنا بالمصطلح إلى ما نسميه (الهوية الثقافية) للجماعة، وهي التي تتبلوّر عبر شمولها الأوسع والأعم للخصائص والمكونات المشتركة، حتى تغدو من خصوصيات هذه الجماعة ودالةً عليها، بحيث نستطيع عزلها وفرزها، عما تتشارك به مع غيرها، من دون أن نفقدها خصوصيتها، فكل السوريين يشتركون بهوية سورية مشتركة، ولكل جماعة دينية وطائفية أو إثنية على حدة هوية ثقافية خاصة بها، وهذا ما نلاحظه بين الكرد والعرب والأثوريين والتركمان وغيرهم، فكل فرد من هذه الجماعات مواطن سوري له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، وهو يرتبط بالنضال الوطني وبالتضحيات ويشارك بالاعتزاز بانتمائه السوري، ولكل منهم في مجتمعه الخاص عاداته وتقاليده وسيرته الشعبية ومعتقداته التي قد تتباين إلى حد بعيد، لتغدو المواطنة تشاركاً، بين مجموعة هويات ثقافية صغرى، تكونت من الإثنيات أوالأديان والطوائف والمذاهب أو باختلاط أكثر من عنصر فيها.
وإذا كانت هذه المشتركات والتباينات عند الجماعات الوطنية، هي واقع موضوعي، يختلف بنسبة تشاركه وتباينه مع الهوية الوطنية السورية الجامعة، فإن الدولة الوطنية الديمقراطية، تستطيع بل يجب عليها، أن تعمل باتجاه ما يخفف من أثر هذه التباينات ومن إمكانية توظيفها، في إثارة النزاعات والحروب، وذلك عبر تعزيز ثقافة الاختلاف والاعتراف المتبادل بالآخر، وأن تنمي روح الانتماء والمواطنة، عبر الالتفاف حول المشروع التحرري ومشروع التنمية الشاملة، وإحلال العدل والمساواة بين الجميع، كما يمكن أن تركّز على الجانب الإنساني المشترك بين الديانات السموية المختلفة، وتعميمه على بقية التباينات الطائفية والعرقية، فالاعتراف باللغة والثقافة القوميتين، الكردية والآثورية والتركمانية وغيرها كلغات رسمية في مناطقها، إلى جانب العربية وإعطائها مجالاً لإبراز ثقافتها وتنميتها، يشكل عامل إغناء للثقافة الوطنية العامة، إذ أنّ تمازج الثقافات وتلاقحها، يعطي زخماً ثقافياً هائلاً، يؤدي إلى تطور الجميع، وهو ما لمسته البشرية منذ الحضارة الهلينستية والحضارة الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي.
سياسة النظام السوري في في وجدان الجماعات التقليدية
ولكن حين كرّس الأمويون والعباسيون من بعدهم سياسة جائرة، اعتمدت على العنصر العربي وإقصاء الأعاجم، وارتكبت المجازر بحقهم، برزت ظاهرة الشعوبية وتفاقم صراع الهويات الثقافية بين العرب والفرس وغيرهم، ومن ثمّ أدت إلى إضعاف الدولة العربية الإسلامية وتعرضها للغزو وتدمير مدنها( بغداد والبصرة وحلب) وسقوطها بيد الغزاة والمحتلين، كذلك كرّست سلطة البعث في سوريا والعراق مفهوماً للقومية العربية المدعاة، يقوم على إلغاء الآخر غير العربي وطمس هويته ومحاولة صهره، مما أدى إلى تنازع الهويات الثقافية القومية، وبهذا الأسلوب الرجعي المتعصب، تعاملت مع الآخر المختلف عن طائفة الحكام ومع السياسي المعارض، حتى دفعت البلاد والعباد أفدح الأثمان الروحية والمادية، وجرّت عملية تصليب النواة المذهبية وجعلها ركيزة لسياسة السلطة على مستوى الوطن، إلى هبة كل أصحاب الحقوق المغتصبة، وبدلاً من الإصلاح وإحقاق الحقوق، ذهب النظام إلى تدمير أسس التعايش الوطني، والتغيير الديمغرافي وقتل وتشريد الملايين، ليترك بلادنا ساحة لصراع الإرادات الدولية والإقليمية والعربية، وإخراج السوريين من دائرة الفعل والالتفاف حول عملية التغيير السياسي المطلوب .
يشير هذا الواقع إلى سياسة مبرمجة، انتهجها النظام السوري وكرّس مفاعيلها في وجدان الجماعات التقليدية، وعبر عنها بالتحصّن بحاضن طائفي، لتفوز بمكاسبه المادية والمعنوية حلقة ضيقة من أبناء الطائفة، وتدفع بالفائض منهم ومن بقية طوائف المجتمع السوري خارجاً، بعد أن تنتقي بعض نماذج منهم، ليكونوا أدوات رخصية في شبكة فسادها المادي والسياسي والخلقي وجعلهم أتباعاً، يرطنون بأيديولوجيات النظام الكاذبة، وهم شريحة واسعة نسبياً من أصحاب المصالح المادية والطبقة الوسطى، التي اشتراها حافظ الأسد في أحداث الثمانينيات، وليس المفتي أحمد الحسون ورجال الكنيسة ومن يسمون بشيوخ العقل وغيرهم، إلا تجلّياً لصوتها وصورتها المبتذلة، التي قادت إلى غياب نسبي لهذه الفئات من أبناء المدن ولاسيما دمشق وحلب عن التفاعل الخلاق مع الثورة السورية، وغلبة الطابع الريفي عليها!
وإذا كان هذا الاختراق لجبهة أنصار الحرية والكرامة، قد شكل اختراقاً عمودياً للهويات الثقافية لمختلف الطوائف والإثنيات واتخذ له أنصاراً من بين صفوفها وإن بتفاوت، وعمل على تنمية هوية كانت هامشية، ثم ّنمت وأخذت دورها في الصراع المديد بين الحرية بوصفها تجسيداً لضمير مجتمع أهلي وشعبي، وبين آلة الإرهاب والقتل والدمار السلطوية، إنها الانتهازية والمصالح المادية التي شبكت هذه الأوساط بالسلطة المجرمة، بعد أن خلصتهم من أيّ اشتراك حقيقي بالقرار السياسي، بل سلختهم عملياً عن هوياتهم الخاصة، وأدخلتهم في حظيرة السلطة، التي لا هوية حقيقية لها خارج فسادها ومصالحها، بدلاً من أن تحكمه حكماً رشيداً يستقوي بالحرية، وتشيع الشفافية والمحاسبة ورعاية المصالح المشتركة للمجتمع، التي ستظلّ هاجس السوريين ومحور عملهم في التصدي، لكل ما يفرضه نظام الخراب العام وكل مناصريه وحماته الدوليين!
جبر الشوفي، كاتب من سوريا
اقرأ أيضاً:
كيف تكتب نصاً لافتاً