عبد الرحمن القلق
هنا فوق رصيفٍ تغوص أطرافه في أفواه العتمة، عند مدخلِ حيٍّ فارغٍ في مقاطعة نهر الرّاين يحسّ الإنسانُ بكل شيء حينما يمشي الليلَ وحده.
يحسّ بعمود الإنارة الوحيد وبالرصيف المكسور بعنايةٍ ودقّة، وبالزجاج المجروح، وبرائحة البيرة التي تترعُ مسامَ الإسفلت تحته، فيبدو جليًا أن حساسية الإنسان هي من يطغى على المكان هنا.
أمّا في دمشق فنادرًا ما تفرُغُ الشوارع إلا من فقرائها وقاطنيها، وحتى إن فرُغتْ، لا يمشي الوحيدُ وحيدًا تمامًا! بل يسيرُ بمحاذاته ظلٌّ آخر يتخلّق عن المكان ويتعدّى ظلّ الماشي حتى يتراءى له أن لهذه المدينة كيانٌ يطغى على كلّ شيءٍ دونه.
قد يظنّ البعض أنني أبالغ الآن حدّ الشوفونيّة. لكن كيان المدينة هذا لم يكن يومًا تخيّلاً ميثولوجيًا!
بل كان دائمًا جسدًا وجوديًا لامرأةٍ تعايننا من عليائها بينما نُتلف نحن بدورنا كل فساتينها التي ارتدتها على مرّ العصور ومنذ بدء الخليقة.
منذ رأس بلاد آرام وجلّق وجيرون وعين الشّرق وحاضرة الرّوم وذات العماد وفسطاط مسلميها وباب كعبتهم والفحياء والعذراء. منذهم جميعًا وهي جسدٌ ملموسٌ يوازي حياة المدينة ويتقاطع مكانيًّا مع خطوات أناسها، مزلزلاً فروق الزمان، فتراهم يمشون باضطرابٍ دائمٍ دون أن يجدوا سببًا لذلك؛ إلا أن يُرجِعوهُ إلى منطلقاتٍ تاريخيّةٍ ودينيةٍ، بينما يخوضهُ الأدباءُ والفنّانون من ناحيةٍ قد يأخذ بُعدُها حسًا شاعريًا عاليًا اتّجاه الأماكن ومشهدًا سُرياليًا بذخًا. (هنا أتساءل):
ما هو منوال العلاقة بين الروح التّاريخية لهذه المدينة وبين أبنائها؟ وكيف تقلبُ موازين العالم الماديّ القائم على بسيطتها، واضعةً مصيرَ كلٍّ منهما في بوتقةٍ واحدة؟
أعترف أنني لم أتهيّأ بعد لهذا السؤال. بل لم أكن أظنّ أنني قادرٌ حتى على صياغته بما ينصف فكرته.
ولولا وسواسه الذي راودني منذ اغترابي الأول عنها، لما طرحته هنا الآن، وذلك تجنّبًا لالتقاطه كمشهدٍ تراجيديّ عوضًا عن تبيانه وتأويله.
ليس لي ههنا إلا أن أتحدّث عن علاقتي بهذه المدينة وقد دخلت عامي العشرين هذه الليلة بعيدًا عنها، إذ كنتُ تركتها في الثامنة عشرَ متخيّلاً نفسي عشيقًا لثلاث فتياتٍ غريباتٍ ولصديقتين ولامرأةٍ تدخل عقدها الثالث بشالٍ أخضر. أذكره جيدًا. لّما لامسَ شعرُها أطرافَه؛ ظننتُ أن غصن داليةٍ تسلّق صدرها، أخذتُ نفسًا عميقًا، اقتربتُ منها ثم نبّهتها من الخريف القادم، عانقتها ومضيت.
في ذلك اليوم كانت السّيارة -التي يفترض أن تعبر بنا حواجز النّظام نحو شمال حلب- كانت تسير باتجاه جبل قاسيون، كان الهواء خانقًا فمددتُ رأسي من النافذة ورأيتها كما لم أعرفها من قبل!
عند تلك اللحظة شعرتُ أنّني ولأول مرةٍ بحاجة هذه المدينة، المرأة!
فتحتُ عينيّ قلبي على مصارعيه؛ وبدأتُ أعدّ دمشق فيهنّ! أمي، أختي، دعاء، يارا، ختام……
يا إلهي؟ كيف لم أشعر بجسدها الموزّع فيهنّ؟
كانت تناديني بأعينهنّ، لكنّني لم أكن شجاعًا بما يكفي لأفتح باب السّيارة وأروحَها وأشهِدها بقائي.
لم أفعل!!
وهأنذا يا دمشق أدخل العشرين، حاملاً جسدًا عن جسدٍ أنهكتهُ أذرع الشهواتِ والسّفر.
أدعوكِ.. يا ربّة التاريخ أن تغفري لي خطيئتي ومنفايَ وترحميني من لعنة وساوسي!
هأنذا يا عزيزتي أحاول قبل قادم العشرين أن أجدني بعدكِ ما استطعتُ.
أفردُ يديّ وأباعد بيني وبينهما ما استطعت، موهمًا نفسي أن جسدي النحيل قلعةٌ واليدين أبوابها.
أفتحُ الأبواب، كي أفتّش عنكِ في جسدي.
ثم كي أتمكّن من النّظر إليّ بشكلٍ عاموديّ؛ أسايرُ انزلاق العتمة وأرمي بكتليَ اللحمية دفعة واحدة إلى الأرض. هكذا.. أستطيع أن أفتّش نفسي -وللمرة الأولى- بهدوءٍ ودون فوبيا حواجز التفتيش في شوارعكِ أو عند الحدود.
أفتّش نفسي بنفسي.
الورق يملأ زوايايَ الحادة محوّلاً إياها لسربِ سطورٍ زرقاء متداخلة، تلمحيني بينها تارةً،
وتارةً أخرى قد تريني هاربًا، يخاف أن يستمسكَ تحرّكات التاريخ ويفسّرها.
العينان -رغم كلّ سيّاراتِ الضوء الوقحة التي تحاولُ اختراقهما- واسعتان، لا أستطيع إغلاقهما حينما تلمع عين الموت في وجه أهلي.
أفتّش نفسي بنفسي.
ما من شيء هنا! إلى ماذا تتّكئ هذي العظام إذًا؟
من أين تتداخلُ الروح مع جسدها؟
أفتّش نفسي ثانيةً وكمهووسٍ أعدّ عيوني كلّها، ثم ألاحظ كم أنه من المُتعبِ على المرء أن يفتح في لحمه عينًا ثالثة! ثم أضحك -هذا فعلته بيدي- وإلا كيف أراكِ دونها يا عزيزتي!
أعدّ أسناني كلّها ثم -لرغبةٍ ما- أعضّ ساعدي اليمنى.
وأعترف أن الكتب لم تجعل منها أثخنَ مثلما تمنّيتُ -قبل اثني عشر عامًا- حينما ضربني زميلي في المقعد الابتدائي! إلا أن أعصابها اتّخذَتْ أشكالاً هرميةً في نهايات الأصابع.
وليس لذلك علاقةٌ بنادٍ رياضيّ أو ما شابه ذلك! بل لربما كانت ضريبة عزلةٍ جنسيةٍ أنكرها، أو بقايا قصائد تفجّرتْ في جوفي حينما لم تجدْ لها منفذًا على شفتيّ.
ما من شيءٍ هنا إلا جسدٌ عشرينيٌ حسب التّقويم!
ألا يقولون إننا نحملك في أبداننا؟
أين أنتِ؟
لا أرى إلا ثلاث فتياتٍ غريباتٍ وصديقتين وامرأةً تدخل عقدها الثالث بشالٍ أخضر.