إيهاب يازجي
أثناء تسكعي في حارات وأزقة المواقع الإخبارية، ومروري بين الفينة والأخرى على أرصفة الصفحات الشخصية لأصدقائي ضمن مواقع التواصل الاجتماعي، استوقفتني بشدة صورة شاركتها إحدى الصديقات ضمن صفحتها على موقع “فيسبوك”، تمعنت في هذه الصورة مطولاً، كم هي مؤلمة وقاسية وبلا شفقة، هي صورة لحقائب الظهر الخاصة بالمهاجرين الذين لقوا حتفهم أثناء رحلة اللجوء، تم تجميع هذه الحقائب في معرض لمدينة “بارسونز” في الولايات المتحدة الأمريكية…
تساءلت صديقتي مُعلقةً؟ تراهم ماذا وضعوا في حقائبهم، ذكرياتهم وماضيهم، أم أحلامهم ومستقبلهم؟ أجبتُها: بل وضعوا فيها أوطانهم ورحلوا، واستودعوها أمانة لدى من عبروا.
ضاقت بهم أوطانهم فلم تعد تتسع لكلماتهم وأصواتهم وأحلامهم، أوطانهم التي رفضت أن تُشاركهم خيراتها وأرزاقها وميراثها، التي أخفت عنهم أوجاعها وأحزانها، تكابرت عليهم فـوارت عنهم ما لهم وما لها، وتجاهلت همومهم وآلامهم…
ضاقت بهم نوافذ الوطن، فحملوا أوطانهم على ظهورهم ومضوا ليبحثوا لها عن أرض وسماء وميعاد، هناك بعيدًا فيما وراء البحار والشطآن، هناك حيث تُبنى الأوطان بمحبة أبنائها.
وضعوا أوطانهم في حقائبهم وحملوها على ظهورهم، لأن الأوطان لا تُهجر ولا تُستبدل، بل تُحضن وتُحمل على الأكتاف كما يحملُ الأب طفله المدلل وينهض به ليعانق السماء، هم أبحروا ولم يعبروا، وعبرت فقط أوطانهم، ثم سارت لتقطع السهول والجبال والوديان وتصل بلاد الأحلام…
هناك صارت أوطاننا المفجوعة صورة ومعرض، هناك الفضاء مفتوح وممدود لأبنائه، والنوافذ والأبواب لا تغلق، والستائر لا تُسدل، أما في وطني، فحدث ولا حرج، تلبس الأمهات في أعيادهن الوشاح الأسود، وطني بات أي شيء إلا الوطن، وبات لكل من شاء إلا لأبنائه، وطني مات فيه الوطن!
وطني ليس ساحة نِزال وصراع، ولا طاولة قمار، وليس مُلكًا لمرتزقةً وزعران، ولا لسماسرة المذاهب والأديان ولا مكان فيه لا لتفسير ولا تأويل، وطني ليس ملهى للساسة ولا مكب نفايات السياس، وطني ليس بازاراً للبيع والشراء، لا باسم الأرض ولا باسم رب السماوات.
وطني، سأبقيه في حقيبتي، أحمله معي أينما ارتحلت واتجهت، لنبقى معًا، ونتقاسم معًا الزمان والمكان، الخوف والأمان، الثراء والحرمان، اليأس والأمل، الهزيمة والانتصار، سنكره ونعشق معًا، نلهو ونعمل معاً، نتعبد وننتشي معًا، معًا سنصحح التاريخ، ونلغي الحدود ووثائق السفر والعبور، معًا سنكتب الدستور، ونغير الشرائع في الجائز والمحظور.
أتدرين يا صديقتي؟ عندما نضع أوطاننا في حقيبة على ظهرنا ونمضي! لن نعود يومًا لنقف على الأطلال، ونبكي ونلطم، ولن تصبح أحلامنا مؤجلة ومستقبلنا لهث سراب، عندها سيكون العالم كله وطني ولن تسعهُ حينها الحقيبة.