هيفاء بيطار*
نشطت حركة الترجمة إلى حدودها القصوى في وزارة الثقافة السورية في الثمانينات والتسعينات، فتمّت مثلاً ترجمة “رواية سلمان رشدي”: أطفال منتصف الليل، بجزأيها، كما صدرت ترجمة لرواية باللغة العبرية عنوانها: “غبار” للكاتبة “يائيل دايان”، وهي إبنة “موشية دايان وتفضح هذه الرواية حقيقة اتبعها الكيان الصهيوني والأكاذيب الرهيبة والحيل التي استخدمها لجلب فئة من اليهود الشباب، خاصة من الدول الشرقية، وإغداق الوعود عليهم.
كما طرحت الرواية ظاهرة انتحار بعض هؤلاء الشباب بعد اكتشافهم زيف ونفاق منطق إنشاء دولة إسرائيل. ولا أزال أملك نسخة ورقية من الرواية وكتبت عنها في مجلة نزوى. كما تجب الإشارة إلى الشعر البديع للشاعر الإسرائيلي “عذرا باوند” الذي تُرجمت العديد من أعماله إلى اللغة العربية وهو يهاجم دولة إسرائيل والكيان الصهيوني.
من جهة أخرى يجب أن أذكر الموقف الذكي لتوفيق الحكيم (رحمه الله) حين كان يدرس اللغة الألمانية في فترة العدوان الثلاثي على مصر، ويومها سأله أحدهم: هل تدرس لغة العدو (يقصد ألمانيا التي كانت أحد أطراف العدوان الثلاثي على مصر) فأجاب: أنا أدرس اللغة الألمانية لكي أقرأ غوته. اللغة بحد ذاتها ليست عدواً وإلا يجب أن نقاطع اللغة الإنكليزية العالمية، لأنها لغة “دونالد ترامب” ولغة معظم السياسيين المضادين للإنسانية.
منذ فترة أذاعت إحدى الفضائيات اللبنانية خبراً حيادياً في الواقع، بأن ثمة مجموعة من القصص القصيرة لكاتبات عربيات تمّت ترجمتها إلى اللغة العبرية، وجنّ جنون اتحاد الكتاب العرب في سوريا، وخوّن أولئك الكاتبات اللاتي لم يكنّ يعرفن بأن قصصهن ستترجم إلى العبرية، كما لو أن العدو هو اللغة العبرية وليس الكيان الصهيوني! وقامت قيامة رئيس اتحاد الكتاب العرب، مع بعض من أتباعه، فطالبوا الكاتبات إياهن بالاحتجاج على ترجمة بعض من أعمالهن إلى العبرية.
السؤال الذي أطرحه بعقلانية ودون تعصب: أين الخطورة في أن يقرأ بعض المستوطنين الصهاينة قصصاً وروايات مترجمة من العربية إلى اللغة العبرية، خاصة إذا كانت تلك الأعمال تظهر حق الفلسطينيين في الأرض وتظهر إجرام الاحتلال الإسرائيلي؟ فكلنا نعلم أن “محمود درويش” و”توفيق زياد” وغيرهما من الكتاب الفلسطينيين، الذين أهدوا أرواحهم وكتاباتهم إلى فلسطين، قد تُرجم العديد من أعمالهم إلى اللغة العبرية، ولا ننسى علاقة درويش بالمعارضة اليسارية الإسرائيلية “ريتا” والتي كتب عنها عدداً من قصائده، فهل نخوّنه؟
اللغات بريئة تماماً من مقاصد أصحابها، كم هو رائع لو تترجم أعمال غسان كنفاني، خاصة روايته: رجال تحت الشمس، إلى العبرية، وأنا واثقة من أنها ستغير مواقف الكثير من المستوطنين.
ولا أنسى تلك السيدة الهولندية العجوز يوم كنت ألقي محاضرة في هولندا اقتربت مني وتحدثنا بالإنكليزية وقالت لي: أحببت كتابتك بعد أن قرأت لك قصة بعنوان فاطمة! وبصراحة أنا صعقت، فأنا لا أعرف من قام بترجمة قصة فاطمة، وهي فتاة سورية عرفتها في سجن الأحداث في اللاذقية وأثرت بي كثيراً فكتبت عنها قصة نشرت في إحدى مجموعاتي القصصية، كما لا أعرف في أية مواقع نشرت، وما ذنبي وذنب زملائي الكتاب إن كانت هنالك قرصنه لكتاباتهم وترجمة لبعضها دون أن يدروا.
فعلاً سوريا بلد اللامنطق والألغاز، يكفي أن تنذكر أن “علي عقلة عرسان” بقي أكثر من ربع قرن رئيساً لاتحاد الكتاب العرب، وفي الاجتماع السنوي لأعضاء اتحاد الكتاب العرب كان وحده يحتل المنصة كمسرحية ببطل وحيد ويلحق به أحد أعضاء القيادة القطرية، وتبدأ أسئلة الكتّاب التي دار معظمها حول ضرورة رفع سقف الضمان الصحي، بل إن أحد الكتاب لما جاء دوره في السؤال لم يتحدث عن سقف الحرية الواطئ جداً في سوريا ولم يسأل عن سجناء الرأي بل تحدث عن أزمة المازوت وغلاء سعره وبأنه يعيش في مدينة باردة! أحسست بدوار كأنني أحضر حلقة من مسرح اللامعقول موضوعها المازوت. ومن النزاهة أن أذكر أن ثلاثة من رؤساء الكتاب العرب في فرعه باللاذقية كانوا ضباط أمن، بمن فيهم الرئيس الحالي!
كفى تخويناً للناس الوطنيين الشجعان، كفى اتباعاً لسياسة كم الأفواه عن قول كلمة الحق. الشعب السوري فاض به الكيل. ويكفي سوريا عاراً أن ثلث شعبها نزح في بلاد الله الواسعة يزرع الآفاق سدى.
*روائية وكاتبة سورية
اقرأ/ي أيضاً: