ريما القاق*
في الجزء الأول من سلسلة المقالات هذه المخصصة حول العنف، تم التقديم لمفهوم العنف وأنواعه وتعريفاته. وفي هذا الجزء سيتم تناول العنف المؤسساتي مع إسقاطات له على أرض الواقع.
اضطر الكثيرون للهرب من بلادهم نتيجة الخوف والضعف وانعدام الأمان والاستقرار، وصلوا إلى بلاد آمنة، لكن بعضهم لم يتخلص من أسباب الهرب تلك، بل زاد عليها الضغط النفسي أو الاكتئاب مع أن البلد المضيف لا يشهد حرباً أو نزاعاً، وحقوق الإنسان مصانة فيه، ونظامه ديمقراطي اجتماعي يضمن حقوق الجميع، فما السبب إذاً؟
لعل السبب هو أنه تم الفرار من الحرب بما فيها من عنف مباشر جسدي ومرئي إلى مواجهة العنف الممارس من قبل الحكومات ولكن بهيئة عنف غير مباشر، غير جسدي ولا مرئي وهو ما تنطبق عليه صفات العنف المؤسساتي.
ومن هنا يمكن تعريف العنف المؤسساتي بأنه أي أذى يمكن أن يصيب الإنسان من قبل مؤسسة أو نظام اجتماعي، يؤدي لمنعه من تلبية متطلباته الأساسية.
الهايم
تعتبر مراكز استقبال اللاجئين المؤقتة، أو”الهايمات“ كما يسميها السوريون، مثالاً على العنف المؤسساتي. فقد تم تسجيل معاناة اللاجئين في هذه المراكز في تقارير صحفية ومهنية. وكثيراً ما قارن اللاجئون أوضاع هذه المراكز بالسجون أو بالمعسكرات العسكرية، وتتفاوت الأسباب ومنها:
تقييد الخصوصية والحريات الشخصية في بعض الهايمات مثل منع الزيارات أو منع الطبخ، على الرغم من بقاء اللاجئين فيها لأكثر من سنة، مما يسبب أذى نفسي واجتماعي وخصوصاً للعائلات القادمة من ثقافات شرقية تعتبر طهو الطعام وتناوله مع العائلة واستقبال الضيوف من قيمها الاجتماعية.
عدا عن الحوادث المسجلة ضمن هذه المراكز والتي تتضمن: تعاطي المخدرات أو الكحول، التحرش الجنسي، العنف الجسدي، الخلافات والاعتداء بين الجماعات المنتمية لجنسيات مختلفة، إضافةً إلى محاولات الانتحار.
أما الفنادق فهي أماكن غير آمنة للسكن وخصوصاً للعائلات، مع خلوها من الأمان والخدمات الاجتماعية وكونها مفتوحة للجميع دون ضوابط كبقية الهايمات.
الاندماج قسراً
تقدم ألمانيا خدمات لمن حصلوا على حق اللجوء أو الحماية، من المعونة الاجتماعية، السكن، التعليم، التأمين الصحي. وفي المقابل تفرض عليهم الكثير من التقييدات والشروط التي تشكل ضرراً حقيقياً للبعض على الصعيدين النفسي والاجتماعي.
رغم أهمية تعلم اللغة للعيش في المجتمع الجديد، إلا أن إلزامية الذهاب إلى المدرسة دون مراعاة التقدم بالعمر، الأمية، عدم القدرة على التعلم، جعلت مدرسة اللغة أشبه بكابوس لبعض اللاجئين. خصوصاً أن التغيب عن المدرسة دون تقرير طبي يؤدي إلى حسم ١٠٪ من المعونة الشهرية. ولم يعد مستغرباً لجوء البعض إلى شراء تقارير طبية أو ادعاء المرض النفسي للتهرب من المدرسة، وهذه السلوكيات هي مؤشر واضح على معاناة أصحابها، يصف الكثير من السيدات والرجال إحساسهم بالقهر أثناء تواجدهم في المدرسة وهم في الخمسينيات والستينيات من العمر دون إلمام مسبق بأي لغة.
الإقامة الجبرية
تختلف حرية التنقل ضمن ألمانيا وأوروبا حسب نوع الإقامة، كما يمنع البعض من التحرك خارج المدينة حتى يتم البت بقضيتهم، الأمر الذي قد يمتد من شهور لسنين. كما أن اللاجئ لا يستطيع تغيير مدينته إلا نادراً. البعض يريد الانتقال من برلين لتعذر الحصول على سكن، البعض يرى في قرية أخرى حاضناً اجتماعياً من الأهل والأصدقاء، وهنا يقف القانون مرة أخرى أمام حق الإنسان في حرية اختيار مكان سكنه. رغم اعتبارات التنظيم والقوانين الفيدرالية، إلا أن إجبار أي شخص على البقاء في مكان لا يحقق له شروط المعيشة المناسبة ولا يمكنه من تقديم إمكانياته، يعتبر عنفاً حيث تم تحديد العنف المؤسساتي بقيام أي نظام أو مؤسسة بمنع الشخص من تحقيق كامل إمكانياته في الحياة.
وقف عملية لم الشمل
صدر عام ٢٠١٦ قرار بإرجاء ملفات لم شمل السوريين الحاصلين على إقامة حماية حتى شباط ٢٠١٨. وحتى هذا اليوم، لم تتخذ خطوات جديدة إلا القرار القاضي باستقدام ١٠٠٠ شخص شهرياً من ملفات لم الشمل مع إعطاء الأولوية للحالات الإنسانية.
يعتبر إيقاف تنفيذ قانون لم الشمل في ألمانيا شكلاً من أشكال العنف المؤسساتي، فقد أدى إلى حرمان اللاجئين الحاصلين على الحماية الثانوية من أملهم بأن يكونوا مع عائلاتهم، وترتب على ذلك عواقب نفسية حادة لكافة أفراد الأسرة: الوالد المنتظر وحيداً والذي توقفت حياته لحين قدومه عائلته، الأم وأعباء الأبناء وحدها، الأبناء دون أحد الأبوين أو كلاهما في بعض الأحيان بما في ذلك من مخاطر لا يستهان بها.
الأوراق والإقامات
يمكن القول إن طالبي اللجوء الذين لم يحصلوا عليه هم أكثر المتضررين من العنف المؤسساتي. فهم بحالة: انتظار القرار بالإيجاب أو الرفض، وبكلتا الحالتين لا يحصلون على الحق بالعمل أو التأمين الصحي الشامل أو فرص إيجاد سكن، كما أنهم مهددون بالترحيل.
لا يوجد إنسان غير شرعي – Kein Mensch ist illegal
تم رفع هذا الشعار عام ١٩٩٧ في الحركة التي شارك بها الآلاف كرفض لتعامل ألمانيا مع طالبي اللجوء والمهاجرين وللمطالبة بحقوقهم في السكن، العمل والتأمين الصحي بغض النظر عن وضعهم القانوني.
قد تكون الكرامة الإنسانية هي الحد الفاصل بين العنف المباشر والمؤسساتي، ففي حين يستطيع من يتعرض لعنف جسدي الحفاظ على كرامته الإنسانية بالمقاومة مثلاً، يشعر ضحية العنف المؤسساتي بالعجز أمام المؤسسة التي يعتمد بشكل أساسي عليها بينما تتسبب له بالأذى لمجرد انتمائه إلى مجموعة ما.
*ريما القاق: ماجستير في إدارة النزاعات بين الثقافات المختلفة
اقرأ أيضاً للكاتية:
العنف كمفهوم… هل أنا ضحية دون أن أعلم؟
المرأة والرجل، أين كنا وأين صرنا؟
العالم الافتراضي … لجوء من نوع آخر “الجزء الأول”
العالم الافتراضي … لجوء من نوع آخر “الجزء الثاني”
أمراض المهاجرين، متلازمة أوليسيس .. ضغوط الاغتراب وغياب الرخاء الاجتماعي – الجزء الأول
أمراض المهاجرين: متلازمة أوليسيس، ضغوط الاغتراب وغياب الرخاء الاجتماعي – الجزء الثاني
هل سيحتاج اللاجئون للمطالبة بحقوق الرجل في ألمانيا؟