في هذه الزاوية، يتحدث سوريون عن تجاربهم الغذائية والمطبخية في بلدان المهجر، ما أخذوه وما تركوه من بصمات في ذائقة البلدان المضيفة وكيف تمت عملية الاندماج على صعيد المطابخ.
بيداء ليلى. بون ألمانيا
ذاكرة المعدة السورية: منذ انتقالي للعيش في ألمانيا وأنا أعيش في حالة من النكران المزمن، والنكران بالتعريف، هو رفض الاعتراف أو الإقرار بالواقع.
لا أريد أن أعترف أو أن أرى الواقع كما هو، خاصة عندما يتعلق الأمر بمأكولاتي السوريّة الساحليّة المفضلة. فبحكم مولدي ونشأتي في مدينة ساحلية تمتد خضرتها وسماؤها بامتداد البحر المتوسط الذي تقع عليه. اعتدت الوفرة في حياتي، بالأخصّ عندما ترتبط الوفرة بالطعام. أربع فصولٍ في السنة تكفي تفاصيل مواسمها لإغناء ذاكرة معدتي. اذ وبحسب دراسة اجريت في بريطانيا، يوجد في المعدة اكثر من ١٠٠ مليون خلية عصبية توازي عدد الخلايا الموجودة في راس قطة!
إذاً، فالمعدة مرتبطة بالمخ بشكل كبير. توضح سوزان وايتبورن، أستاذة العلوم النفسية والدماغية بجامعة نيويورك، أن ذكريات الطعام أكثر حسية بطبيعتها من غيرها من الذكريات.
هذا يفسر إلى حدٍ كبير كيف أن كل أكلة موسمية ترتبط لدي بذكرى معينة، يغلب طقس ألمانيا الرمادي على جميع فصول السنة ويحدث نوعاً من الفراغ في ذاكرتي ومعدتي على السواء. أفتقد الأكلات الموسمية الساحلية بشكل كبير. أقوم بمطالعة صورٍ في محرك غوغل للبحث من أجل تحفيز تلك الذاكرة، أو صوراً كنت قد التقطتها واحتفظت بها على جوالي، إلا أن كل تلك المحاولات لاستعادة الذكريات لم تجلب لي سوى الخذلان.
ثمرة مستوردة اسمها “زيتون”
كل وجبة في بيتنا السوري، كأي بيت سوري، كانت عبارة عن طقس اجتماعي عائلي حميمي ودافئ.
الفطور على سبيل المثال، مائدة تمد وتملأ بحواضر البيت السوري المعتادة من المربيات و اللبنة المكورة وصحن البيض المقلي أو المسلوق، وبالطبع ملك مائدة الفطور الزيتون الحبيب. فذكر كلمة الزيتون يكفي لملء عيني بدموع الحرمان و الاشتياق الذي يتأجج في قلب معدتي المحروم. فبعدما كنت أتناول الزيتون في كل وجبة فطور وأملأ الصحن المخصص للنوى حتى يفيض، أتناوله الآن بالتنقيط. اذ يعد الزيتون مادةً غالية الثمن نسبياً في ألمانيا ومستوردةً إما من إسبانيا أو إيطاليا.
قمت بتجربة جميع أنواع الزيتون التي يمكن الحصول عليها في محلات السوبرماركت الألمانية، إلا أنني لم أجد أي نوع قريب إلى طعم الزيتون الأخضر الذي كنّا نقوم بتحضيره وحفظه في كل موسم قطاف في مدينتي الجميلة. والذي يعود بي إلى ذاكرة المعدة السورية.
الزيتون لا يعني الكثير لأصدقائي الالمان، هو فقط شيء غريب، يتناوله أغلبهم فقط مقدماً في كاس المارتيني في البارات. حتى أن الزيتون الموجود في البقالات التركية لا يقارن البتة بجودة ومذاق منافسه السوري. ربما لا تكمن المشكلة في الزيتون المتوفر في ألمانيا وإنما في ذاكرتي الذواقة ذات المعايير السورية التي تبحث عن نفس الطعم، نفس المحفز، نفس المصدر، نفس الأرض التي احتضنت أشجار المحصول، نفس الشمس الدافئة التي لفحته و نفس المطر الطيب الذي سقاه، وأيدي الفلاحين التي زرعت واعتنت وجنت، وبالطبع يدا أمي التي قامت بإعداده.
البقدونس أبو شعر ناعم
لا ينطبق هذا فقط على الزيتون، بل أيضا على الخضروات السورية التي تعد شيئاً أساسياً ويومياً كالخيار والبندورة والنعناع والبقدونس وغيرها. كل ما سبق ذكره يخلو من المذاق، لا طعم و لا نكهة.
اليوم، يعد صحن التبولة بالنسبة إلي بمثابة شيء مخملي ومترف. أعرف أن البعض سيقولون أن البقدونس متوفر في البقالات التركية. ولكن طعمه لا يشبه أبداً طعم بقدونسات حاكورة جارتنا التي كانت تبيعه بالكيلو بسعر لا يذكر، أو بقدونسات المزارعين في سوق الخضار. قمت بالبحث عن بقدونس ناعم و غير مكزبر كما يدعونه هنا. وبما انني أتّبع نظاماً صحياً خالٍ من السكر المكرر واللحوم منذ عشر سنوات، أقوم بزيارة سوق المزارعين العضوي في المدينة الألمانية التي أعيش فيها بشكل أسبوعي تقريباً. لا أمانع بأن أدفع مبلغاً إضافياً للمنتجات العضوية التي تأتي من المزارعين الصغار بشكل مباشر. ولكنني في الأسبوع الماضي تفاجأت أن سعر أربع باقات من البقدونس أبو شعر ناعم ٧ يورو. هذا ما أجابني به البائع الذي أراه في كل يوم سبت.
سالت البائع الشائب عن سبب ارتفاع سعر البقدونس خلافا للأسابيع الماضية، فأجابني أنه وبسبب العاصفة التي مرت والرياح العاتية، تضرر محصول البقدونس أبو شعر ناعم بشكل كبير ولذلك ارتفعت أسعاره.
“إيه” و بتمديد طويل للياء، قلت في نفسي. ما أفقر فلاحينا وما أطيب قلوبهم! خمس ليرات كانت سعر الباقة في سوق الخضار، ولم تجبر سوء الأحوال الجوية أو الاجتماعية أوالاقتصادية الفلاحين على زيادة سعر باقة البقدونس أبو شعر ناعم. أخذتني أفكاري بعد أن دفعت اليوروهات السبع لقاء أربع باقات من البقدونس لا تقارن، إذا ما ضمت سوياً، بربع باقة من تلك التي كانت أمي تشتريها من سوق المزارعين أو من حاكورة الجارة الطيبة.
ثم أوصلتني أفكاري إلى الغلاء في سوريا وتكدر أحوالها وأحوال أهلها واقتصادها المتداعي ونظامها الرأسمالي وغياب العدالة الاجتماعية، خاصة بعد رؤيتي لبعض المشردين قرب محطة الباص في طريق عودتي الى المنزل.
يقول العديد من أصدقائي الالمان أنهم اختاروا بإرادتهم افتراش الأرض عوضاً عن المكوث في المأوى المخصص لهم. غريب كيف لأربع باقات من البقدونس أبو شعر أملس أن تسافر بالمرء إلى أماكن و بلدان قد يظنها بعيدة. كل تلك الأفكار جعلتني أجوع أكثرو تفاجأت بعد عودتي إلى المنزل كيف أنني نسيت شراء البصل الأخضر من أجل التبولة. طبعا لم ألم نفسي، لمت اليوروهات السبع ثمن الأربع باقات من البقدونس أبو شعر ناعم أملس.
بيداء ليلى. مدونة سورية متخصصة في التغذية التكاملية و نظام الماكروبيوتيك. وطالبة ماجستير إعلام في أكاديمية دويتشه فيله – ألمانيا
مواضيع ذات صلة:
زاوية: مطبخ من غربتي… تجارب السوريين الغذائية والمطبخية في بلدان المهجر 1
المطبخ وأثره في الاندماج، ماذا أخذنا وماذا أعطينا؟! رأي يرصد حركة تبادل الثقافات عبر المطبخ
الأطعمة التي تأكلها قد تؤذيك أكثر من التدخين