د. هاني حرب. باحث ومحاضر في جامعة هارفرد USA – مؤسس وأمين سر الجمعية الألمانية/السورية للبحث العلمي
إن عنوان هذه المقالة إشكالي! تم اختيار هذا العنوان لتسليط الضوء على الفروقات الهائلة التي نراها يومياً بين أداء الطلبة المهاجرين (سوريين، عراقيين..)، ضمن أنظمة التعليم في أوروبا بشكلٍ عام والألمانية بشكل خاص، مع مثيلاتها في دولهم الأم أو الدول المحيطة بهم.
خلال العامين الماضيين حقق عدد من الطلبة والطالبات السوريات المراكز الأولى ضمن مدارسهم في مختلف الولايات الألمانية، مما يدل على لماعة وذكاء هؤلاء الطلبة. وهنا في ألمانيا يتم التركيز بشكل كبير على ما يحتاجه الطالب للوصول إلى مبتغاه في المستقبل؛ فإن كان موسيقياً تم التركيز على التعليم الموسيقي دون إهمال المواد الأساسية التي يحتاجها أي شخص في حياته العملية. يضاف إلى ذلك أهمية الفهم والاستيعاب ضمن الصفوف التعليمية المختلفة دون التركيز المفرط على الحفظ.
في دولنا العربية، أصبح التعليم المدرسي –وحتى الجامعي في أحيانٍ كثيرة– عملية ميكانيكية لحشو دماغ الطلبة بمعلومات لا يستطيعون الاستفادة منها على الإطلاق. كما أصبح دخول الجامعات بمختلف التخصصات لاسيما الطبية والهندسية، مرتبطاً بشكلٍ وثيق بمعدل الطالب في امتحانات الثانوية العامة. هذه الامتحانات، التي كان يجب أن تكون مقياساً لفهم الطالب لمختلف العلوم الأدبية أو العلمية. بينما في الحقيقة أصبحت هذه الامتحانات مقياساً لحجم ذاكرة الطلبة القصيرة بمختلف المواد، التي ينساها الطالب فور خروجه من قاعة الامتحانات.
هنا في ألمانيا، يحق لأي خريج مدرسي دخول كليات الهندسة المختلفة. نعم، هنالك شروط معينة لدراسة الطب، الصيدلة وطب الأسنان في ألمانيا أيضاً ولكنها لا تخضع كما في دولنا للمعايير المستحيلة التي لا تقيس على الإطلاق توافق الطالب بشكل حقيقي مع دراسة أحد هذه التخصصات الثلاثة.
لنعد قليلاً إلى النظام التعليمي الألماني المدرسي. هذا النظام المعتمد على الفهم استطاع وخلال سنوات متواصلة أن يقدم نخبة من الطلبة ليبدعوا فيما بعد ضمن التعليم الجامعي وليصبحوا حملةً لشعلة المستقبل في ألمانيا. خلال السنوات القليلة الماضية ومع موجة الهجرة الكبيرة التي حصلت من دول مختلفة بسبب الأوضاع هناك، بحث الكثير من الطلبة عن فرصٍ لمتابعة دراستهم المدرسية ومن ثم الجامعية بعدها.
النظام التعليمي/المدرسي الألماني، معقد بما فيه الكفاية ليتم تحويل الكثير من الطلبة من النظام التعليمي العام، للنظام المهني أو الفني. وبالطبع لم يكن هذا أمراً ساراً لكثير من الطلبة وأهاليهم. رغم هذا أبدع الطلبة من الأصول المهاجرة في كلتا الحالتين.
إن التحديات التي تواجه الطلبة المهاجرين وخصوصاً بالأعمار الكبيرة ضمن أنظمة التعليم في أوروبا هائلة. تبدأ بعوائق اللغة، ولا تنتهي بمشاكل التنمر المختلفة التي يعانون منها في العديد من المدن والمدراس في ألمانيا. وتعتبر اللغة العائق الأهم إما لدفع الطالب قدماً في المدارس العامة، أو دفعه نحو التعليم المهني والفني. ولاشك أن سرعة إتقان اللغة الألمانية وممارستها واجتياز الامتحانات المدرسية خلال السنتين الأوليتين في المدرسة بشكل جيد، يدفع الطالب نحو المدارس العامة، وبالتالي الحصول على فرصة لدخول الجامعات.
وفي حال لم يستطع الطالب المدرسي الحصول على النتيجة المطلوبة فستكون المدراس المهنية والفنية هي وجهته للسنوات الثلاثة التالية. بالطبع يمكن للطالب بعد إنهاء التعليم المهني أو الفني أن يحاول اجتياز امتحان الثانوية العامة ليستطيع إكمال الجامعة بأقرب تخصص له من دراسته المهنية. فإن درس الطالب ليكون مساعداً مخبرياً كيميائياً أو بيولوجياً، فيمكنه دخول الجامعة بتخصصي الكيمياء أو العلوم الحياتية (البيولوجيا).
في حالاتٍ كثيرة، أبدع الطلبة ذوو الأصول المهاجرة، ليستطيعوا خلال سنوات قليلة أن يقلبوا حياتهم رأساً على عقب، فمنهم من كان فاشلاً في المدرسة في بلده الأم، ليس لفشل الطالب نفسه، بل لفشل النظام التعليمي. ولدينا العديد من الأمثلة الناجحة جداً التي حققت النتيجة الأولى على مدارسهم، مدنهم وحتى ولاياتهم.
هدى الخولاني، حققت خلال ثلاث سنوات بعد وصولها إلى ألمانيا المركز الأول في مدرستها في ألمانيا. وصلت هدى لا تعرف أي شيء عن اللغة الألمانية بعد رحلة صعبة من مصر إلى ألمانيا. عندما بدأت في الصف الحادي عشر، لم تعرف أبداً القراءة والكتابة. خلال ثلاث سنوات استطاعت هدى التفوق على نظرائها الألمان والوصول لأن تكون الأولى في مدرستها.
نور ياسين قصاب، مثال آخر حيث حققت المرتبة الأولى في الثانوية العامة الألمانية، على مستوى ألمانيا ككل. استطاعت نور خلال فترة قصيرة بعد الهجرة إلى ألمانيا تعلم اللغة الألمانية، وإتقانها بشكل يفوق جداً نظراءها الألمان، والحصول على المعدل الكامل دون نقصان في امتحانات الثانوية الألمانية.
هذه أمثلة بسيطة تم تسليط الضوء عليها إعلامياً، ولكن هناك عشرات الأمثلة الأخرى لطلبة من أصول مهاجرة حققوا بها نجاحات منقطعة النظير ضمن النظام التعليمي الألماني لأنه أتاح لهم الفرصة لإظهار قدراتهم الفنية، الموسيقية، العلمية أو الأدبية.
في النهاية، فإن مشكلتنا مع أنظمة التعليم في أوروبا على اختلافها ليست مرتبطة بفهم الطالب، أو غبائه أو عدم قدرته على الاستيعاب، بل هي مشكلة ضمن أنظمة التعليم المدرسية في دولنا الأم وعلينا كأهل، أن نكون قادرين على تقديم المجالات المختلفة لأولادنا الطلبة للإبداع بالشكل الذي يرونه مناسباً.
إقرأ/ي أيضاً للكاتب:
التنمر في ألمانيا، مشكلة ممتدة للدراسات العليا ومجتمعات البحث العلمي الألمانية
بعيداً عن تأثير الدين: اللغة العربية لأطفال المهاجرين… الأهمية والمصاعب!
الدراسات الفنية والمهنية فوائدها وسلبياتها
أنغيلا ميركل: كيف قتلها شغفها للمساعدة سياسياَ؟