بقلم: لينا وفائي*
يتداعى أنصار بيغيدا PEGIDA كل عام إلى مظاهرة مركزية في مكان ما من ألمانيا، يسافرون عبر البلاد ليكوّنوا عدداً يؤخذ بعين الاعتبار، وقد كان هذا العام من نصيب مدينة غوسلار، مما دعى الفعاليات الشعبية والرسمية من منظمات مجتمع مدني وهيئات رسمية إلى التحضير لهذا اليوم، فاختار معارضو بيغيدا شعاراً معبراً وهو: “غوسلار ملونة ضد اليمين المتطرف”.
أما لماذا اختار بيغيدا PEGIDA غوسلار تحديداً لتكون مركزاً لاحتجاجهم على الرغم من أنها مقاطعة صغيرة على أطراف جبال الهارتز، فذلك يعود الى العام ٢٠١٥ حين صرّح عمدتها د.اوليفر يونك(dr.Oliver Junk) لصحف عالمية بأنه يرحب باللاجئين في مدينته، وكان أن استقبلت هذه المقاطعة الوادعة أكثر من ٣٠٠٠ لاجئ حتى بدء العام ٢٠١٦ أغلبيتهم من سوريا، بعد أن انتهجت ألمانيا سياسية الباب المفتوح، فيما لم يزد عدد سكان مدينة غوسلار ذلك الوقت عن ٥٠ ألفاً، وعدد سكان المقاطعة ٨٠ ألفاً.
إذاً شكّل اللاجئون نسبة لا يستهان بها من سكان المدينة، ووسموها بطابعهم، فصار من الممكن أن تسمع اللغة العربية في الشوارع، وافتتحت محلات البقالة العربية، وصار الألمان يتذوقون الطعام العربي ويقبلون على شرائه.
حضرت الى غوسلار بداية العام ٢٠١٤ عند وصولي إلى ألمانيا، سكنت وعملت فيها حتى الآن، بالنسبة لي غوسلار أليفة ودافئة كوطن بديل، يحنّ علي ويمسح دمعة اشتياقي لوطني الذي حرمت منه، كخالة حنون تحتضني بعد أن تيتّمت من أمي سوريا، عند سفري خارجها أشتاق إليها، أحب شوارعها القديمة حين تذكّرني بدمشق القديمة، وبحمص القديمة التي دُمرت وببستان الديوان.
عند وصولي كان اللاجئون يعدّون على الأصابع، رغم وجود جالية قديمة تركية، أتى أغلبهم كعمال ضيوف واستقروا فيها. لكن على الرغم من الجو العام المرحّب باللاجئين والأجانب، تأثّرت غوسلار بهذا النزوح الكبير سلبياً، فقد حصل حزب البديل AFD على نسبة ١٠.١٪ في الانتخابات الاخيرة، بينما لم يكن له وجود في الانتخابات التي قبلها. فكما هو الحال في عموم ألمانيا بدأ ظهور اليمين المتطرف المعادي للأجانب هنا، وإن مازال خفراً لا يمكن ملاحظته في الشارع، ونادراً ما نتعرض كلاجئين لعداء عنصري سافر
أقامت الفعاليات الاجتماعية والسياسية في غوسلار وعلى مدى شهر كامل قبل موعد المظاهرة المحدد فعاليات للترحيب باللاجئين، تنوّعت بين حفلات لتناول الأطعمة إلى محاضرات عن الثقافة والاندماج، وتحضّرت لمواجهة اليوم المنشود، إذ أعلنت عن مظاهرة مضادّة لمظاهرة بيغيدا في اليوم ذاته.
تم تنظيم المظاهرتين بحيث لا تتواجهان أبداً، فاستقرت مظاهرة غوسلار الملونة في المدينة القديمة، ابتدأت بالتجمع منذ العاشرة صباحاً لتجوب الشوارع القديمة قبل أن تستقرّ في مدخل المدينة القديمة الساعة الثانية عشرة وتستقر فيها حتى المساء. ألقيت فيها كلمات التأكيد على التنوع، والإصرار على تلون المدينة بسكانها، ورفضها لليمين المتطرف، وأدّت بعض الفرق أغانيها.
بينما تجمع أنصار بيغيدا في البلدة الجديدة، تفصل بين المظاهرتين محطة القطار، وكان أغلبهم من خارج المدينة، فراحوا يتوافدون إليها عبر محطة القطار، ليقيموا بعد تجمّعهم عرضاً عسكرياً.
حسب تقرير NDR بلغ عدد المتظاهرين المناهضين لليمين المتطرف ٣٠٠٠ شخص، بينما لم يتجاوز أنصار بيغيدا ٢٦٠ شخصاً تجمعوا من عموم ألمانيا.
كشاهدة عيان على مظاهرة غوسلار الملونة، رأيت كيف اتسمت المظاهرة بروح الإلفة والمحبة، اذ رغم وضوح التنظيم فيها لكنه لم يكن تنظيماً جامداً، بل أشبه بأسرة تسير معاً إلى هدفها، يتنزه أفرادها ويتبادلون الأحاديث، ألماناً ولاجئين، بينما مظاهرة بيغيدا، التي لم أستطع رؤيتها جيداً بسبب فصل الشرطة بين المظاهرتين لكني تابعتها عبر البث المباشر لجريدة غوسلار Goslarische Zeitung على الإنترنت، مارشاً عسكرياً كأنهم جنود مشاة ذاهبين إلى الحرب، ولهذا دلالاته، فهم يريدون التأكيد على تنظيمهم الفاشي. وقد حاول بعض أنصار بيغيدا الدخول بين الجموع الملونة لتخريب الانسجام، وأطلقوا شعاراتهم العنصرية فما كان من البعض إلا الاستعانة بالشرطة التي ألقت القبض عليهم واستمر الاعتصام والتجمع بكل سلاسة وود.
في اليوم الذي سبق المظاهرة تنزّهت في شوارع المدينة، كانت تعج بالحياة أكثر مما اعتادت دائماً. كنت أنظر إلى الوجوه الجديدة وأخمّن: أين سيكونون غداً وفي أي طرف؟ أغلبهم شاهدتهم في الصباح يسيرون معنا في المدينة القديمة ويتجمعون في مدخلها، كنّا رجالاً ونساءً، شباناً وصبايا وأطفالاً صغاراً، مبتسمين ومصرين على التعايش وعلى غد ملون.
إن المحبة التي أعطتنا إياها هذه المدينة تتطلب منا محبة مقابلة، وهذا لا يكون بالاشتراك في مظاهرتها فحسب، بل بالاندماج الفعال في مختلف أوجه الحياة العملية والثقافية، واحترام قوانين البلد، وهو مسؤولية كبيرة تقع على هاكلنا، كي لا يستطيع اليمين المتطرف استغلال بعض الاخطاء للنمو وهو سيفعل ذلك بالتأكيد.
في نهاية مظاهرة بيغيدا أعلنوا عن مكان مظاهرتهم العام القادم في كيمنتس Chemnitz، هل ستبقى كيمنتس ملونة كما استطاعت غوسلار، هذا ما أرجوه.
خاص أبواب
اقرأ أيضاً للكاتبة: