د. هاني حرب. باحث في جامعة هارفرد– بوسطن– الولايات المتحدة الأمريكية
المكان: مدرسة ابتدائية ألمانية!
الطلبة: من مختلف الجنسيات!
المادة التي يتم تعليمها: الأخلاق!
نعم، الأخلاق مادة من المواد التي يتم تعليمها للطلبة خلال تعليمهم الأساسي. يتعلمها الأطفال في الحضانة أولاً، وتستمر معهم حتى إنهاء التعليم الأساسي ودخول المرحلة الثانوية (الصف السابع حسب النظام التعليمي العربي عموماً والسوري خصوصاً).
يتعلم الأطفال خلال هذه الفترة العديد من الأساسيات التي أصبحت للأسف منسية في مدارسنا بشكل عام، ومنها: عدم رمي النفايات في الشارع، احترام القانون، احترام إشارات المرور لأنها موجودة لحماية الشخص وليس لعرقلته، شكر كل من يقدّم معروفاً لنا أو بعد شراء أي شيء من المحال التجارية.
تعتبر هذه المادة إحدى المواد البسيطة التي يتعلمها الطلبة، والتي تتضمن كثيراً من المواد التعليمية العامة الأخرى كالموسيقى، السباحة، وغيرها والتي تهدف لتنمية مهارات الطلبة الحسية والعقلية، ودفعهم للخروج من بوتقة التكرار إلى فضاء الابتكار الحر. تعتبر هذه الطريقة إحدى أنجح الطرق التعليمية في العالم والتي أوصلت ألمانيا إلى مصاف الدول المتقدمة، ولكن بالطبع هنالك نماذج أنجح تعليمياً على مستوى العالم كالنموذج الدنماركي، السويدي، الفنلندي وكذلك النروجي.
ألمانيا ما بعد الحرب
عام ١٩٤٥ أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ودمار ما يقارب 96% من ألمانيا، كان من أهم أهداف الحكومات الألمانية المتعاقبة تطوير النظام التعليمي الألماني للوصول إلى الإنسان الألماني القادر على تخطي العقبات وعلى الإبداع وبناء الأفكار. وهذا ما حصل بالفعل خلال أقل من ١٥ عاماً بعد نهاية الحرب، فبدأت الصناعة الألمانية بالإبداع مجدداً، تاركة باب التطوير والبحث العلمي مفتوحاً لكل من يملك القدرة. اليوم تحتل ألمانيا المرتبة الخامسة عالمياً بعدد براءات الاختراع المسجلة، والمرتبة الرابعة عالمياً في براءات الاختراع الصناعية.
الثقافية التعليمية في ألمانيا تعتمد على تطوير مهارات الطالب المختلفة، في الرسم والموسيقى أو الرياضيات والفيزياء والكيمياء. بهذه الطريقة الإبداعية يمكن للأساتذة وللمرشدين التربويين والاجتماعيين معرفة ميول الطلبة وتوجيههم مع أهاليهم لما هو أفضل لهم من الناحية الدراسية والعلمية. هذا التوجه أدى خلال أعوام بسيطة لنشوء طبقة من الخبراء بكل الاختصاصات، ومنها الاختصاصات الفنية، فعندما نتحدث عن نجارين أو حدادين فالمنتج الألماني يعتبر إلى اليوم الأفضل والأقوى عالمياً.
أطفالنا في المدارس الألمانية
اليوم وبعد دخول عدد من أطفال المهاجرين الجدد إلى المدراس الألمانية، بدأ الأهل ملاحظة العديد من التغييرات! من المنظور العربي والسوري خصوصاً قد تبدو معظم التغييرات سيئة، لأنها تحمل الاستقلالية للطفل، قوة الشخصية، القدرة على التفكير المستقل. هذه الصفات كانت ممحية تقريباً في ثقافتنا التعليمية في بلادنا إلا فيما ندر. كان ممنوعاً على الأطفال والطلبة التفكير المستقل، كان ممنوعاً عليهم وعلينا طبعاً التفكير الإبداعي. إن فكرة التعليم المهني أو الفني، أو تعلم الفنون كان ومازال محظوراً لدى الكثير من العائلات السورية.
كان المعدل العالي في الثانوية العامة يعتبر الأهم، دون الأخذ بعين الاعتبار رغبة الطالب أو ميوله. هذا أدى ومازال يؤدي إلى نشوء جيل كامل من الطلبة القادرين على الحفظ الأعمى دون تفكير على الإطلاق. في هذا السياق سأعطي مثالاً من حياتي العلمية الحالية حيث لدي طالبان، الأول يحمل الترتيب ٣٤ في بلده، يدرس الطب، الثاني يحمل الترتيب ٨٠ ألف، يدرس العلوم. الأول وبعد ثلاثة أشهر في المخبر لا يستطيع حتى الآن أن يقوم بحسابات بسيطة للتراكيز أو تحضير لبعض المحاليل. بينما طالب العلوم، وخلال أقل من أسبوع، استطاع البدء بحل المشاكل العلمية المختلفة، ناهيك عن قدرته الحسابية التي فاقت التوقعات.
أين تكمن المشكلة؟
المشكلة هي في دفن ميول وقدرات الطلاب وتوجيههم دون أي وعي على الإطلاق نحو أهمية قدراتهم ومهاراتهم وأهمية تنميتها بالشكل الصحيح والمناسب. كم من الناس فشلوا اجتماعياً وعملياً وعلمياً لسنوات طويلة في حياتهم لوقوعهم ضمن هذه المنظومة الفاشلة في التعليم.
مثال آخر أكثر حدة، وقد يهاجمني البعض لطرحه: نتباهى كثيراً بأطبائنا أو صيادلتنا ونجاحهم في بلاد المغترب! مالم ننظر إليه هو قدرتهم الإبداعية على حل المشاكل والمعضلات والتفكير العلمي البحثي. فكم من السوريين أو العرب وصلوا لمراحل كبيرة ضمن البحث العلمي مقارنة بأعداد العاملين في القطاع الطبي والهندسي في ألمانيا. النسبة ضئيلة جداً، لأن طريقة إنشاء العقل خلال الدراسة ركزت على الحفظ الاعمى فقط دون تفكير، وعليه نجد النجاح بشكل ممتاز في الأعمال الروتينية أما في الأعمال التي تحتاج إلى إبداع نجد نسبة الناجحين ضئيلة جداً.
أسطورة الألمان وثقافة الخروج على العائلة
المنظومة التعليمية الألمانية، لا تدعو مطلقاً لتبني ثقافة كره العائلة أو الخروج عن العادات والتقاليد، بل تدعو إلى استقلالية التفكير والخروج عن المألوف والإبداع في العمل وتنمية المواهب. على المهاجرين الجدد وحتى القدماء منهم، أن يعوا هذا الأمر، ومنه سيستطيعون الوصول إلى ثقافة تعليمية تأديبية أفضل لأولادهم.
في النهاية، إن الثقافة التعليمية الألمانية يمكنها نقل الجيل الجديد من المهاجرين الجدد من مرحلة تفكير القطيع إلى مرحلة تفكير تتسم بالإبداع والتطوير، وهذا أمر علينا جميعاً أن ندفع لأجله ولتوفيره لأولادنا.
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً للدكتور هاني حرب: