د. نجاة عبد الصمد. طبيبة وروائية سورية مقيمة في ألمانيا
ما نزال نتحاشى كلمة (سرطان)، يرعبنا النطق بها أو التفكير بما تعني، نستبدلها بغمغمةٍ أو رجاء: (هذاك المرض.. الله يبعده عنا وعنكم..)، متناسين أنّها لن تغيّر ولن تجمّل واقع الحال، فالسرطان هو السرطان، هو تكاثر خلايا خبيثة تسيطر على عضوٍ أو نسيجٍ ما في الجسم فتعطّل وظيفته وتبدأ بالتهامه.
تشغل الأورام السرطانية المركز الثالث لأسباب الوفيات في العالم (بعد الحوادث والكوارث وأمراض القلب)، وتعاني منها الدول الغنية والفقيرة على السواء، ولم يُعثر بعد على سببٍ واحد وأكيد لحدوثها ولا على حلّ شافٍ لها، حتى أنّ منظمة الصحة العالمية وعدت بصنع تمثالٍ من الذهب الخالص للباحث الذي سوف يكتشفها، وسيختار بنفسه الساحة التي سيتوسطها التمثال في أيٍّ من عواصم العالم!
وفي حين لم تُكتشف بعد أسباب معظم السرطانات، فقد ثبت ارتباط سرطان عنق الرحم بسلالات معينة من الفيروس الحليمي البشري (البابيلوما، HPV)، تصاب به المرأة عبر العلاقة الجنسية مع شريكٍ مصابٍ بهذا الفيروس، وعندما يكون للمرأة أكثر من شريك جنسي أو بعلاقتها مع شريكٍ واحد لديه علاقات مع أكثر من شريكة.
يبدأ المرض بما يسمّى: العدوى الصامتة، أي من دون أية أعراض مرضية ظاهرة، وتستمر كذلك لسنوات قبل أن تتطور الإصابة إلى سرطان عنق رحم متقدم، وحينها يصبح العلاج الجراحي أو الشعاعي أو الكيماوي، جميعها متأخرة ومحدودة النتائج.
يشغل سرطان عنق الرحم المرتبة الثانية (بعد سرطان الثدي) بين الأورام النسائية، ويفتك سنوياً بحوالي 300 ألف امرأة في العالم. ولأن العامل المسبب له أصبح معروفاً فقد وضعت منظمة الصحة العالمية خطةً لخلاص نساء العالم منه خلال ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن إذا تكاتفتْ الجهود الدولية والفردية لإنجازها.
تتضمّن الخطة:
- التوعية الصحية الجنسية المكثفة والمستمرة لكلا الجنسين.
- إجراء لطاخة عنق الرحم (فحص القزازة) دورياً لجميع النساء النشيطات جنسياً، وهي إجراء بسيط وسهل ومتاح في مراكز الفحص الطبي النسائي، يمكن بواسطتها الكشف المبكر عن الاصابة بفيروس البابيلوما وعلاجه وهو ما يزال في مرحلة العدوى الصامتة.
- إعطاء اللقاح المضاد لفيروس الورم الحليمي البشري (HPV) للبنات والأولاد بعمر من 9 إلى 14 عاماً (وسطياً بعمر 11 – 12 سنة) أي في أول البلوغ وقبل البدء بالنشاط الجنسي بوقتٍ كافٍ للوقاية من الإصابة بالفيروس نفسه وبالتالي من سرطان عنق الرحم لدى الإناث. وإذا لم يتم التطعيم (اللقاح) في هذا العمر المبكر يمكن إعطاؤه حتى عمر 26 عامًا.
في بلادنا الأم (التي لم يصل هذا اللقاح إليها بعد) كثيراً ما كانت أولى محاضرات التوعية الطبية للتعريف باللقاح الواقي من سرطان عنق الرحم تطرح سؤالاً: العفة أم اللقاح؟!
وفي ورشات التوعية الصحية لجماعات النساء المهاجرات إلى أوروبا، ما يزال هذا اللقاح هو الأكثر إثارةً للجدل، فموافقة الأهل على إعطائه مطلوبة، والنساء يسألن: هل نوافق على إعطائه لبناتنا وكأننا نشجعهن على الانحلال الأخلاقي ونمهد لهن الطريق أو نستجرهّن إلى إقامة علاقات عديدة محرّمة شرعاً!؟ وقد ساهم أصحاب الفتاوى الدينية وللأسف كذلك بعض الأطباء والطبيبات من أصولٍ عربية بإقناع الأهل: (يمكنكم رفض اللقاح، لن يحتاجه أولادكم ما دمتم تربّونهم على الشرع القويم!)
هل يكون السؤال حقاً: العفة أم اللقاح، أو هل أوافق على اعطائه لابنتي؟ أم السؤال كيف على الآباء والأمهات تطوير فهمهم ووعيهم كي لا يستلبهم الوهم ويرسموا في رؤوسهم مخططاً وحيداً سوف تسير عليه حياة أبنائهم الجنسية، ولا يوقنوا أنهم أكثر فهماً أو معرفةً من أبنائهم فقط لأنهم الأكبر سناً، وأن يتذكروا أنّ هذه الحرية الجنسية العلنية والمسؤولة في أوروبا كان وما يزال يقابلها في بلادنا في السرّ سلوكياتٌ جنسيّة منفلتة من عقالها.
من حق الأهل أن يغرسوا في أبنائهم ما يرونه صحيحاً ولازماً، على أن يتذكروا أن الأبناء لن يكونوا أبداً نسخة طبق الأصل عن آبائهم. غالبا ما يعرف الأبناء أكثر مما يظن الأهل، وربما يعرفون أكثر من الأهل، ويبنون حياتهم لا على أساس أنهم أخذوا اللقاح الحامي من سرطانٍ ما، بل وفق ثقافتهم الشخصية وثقافة جيلهم والمحيط الذي يحتويهم. هي طبيعة وفطرة الشباب والشابات الطالعين إلى الحياة أن تثيرهم الأسئلة وأن يبحثوا عن الأجوبة عبر التجريب أولاً. قد يختارون تعدد الشركاء وقد يتخذ أحدهم/ إحداهن شريكاً واحداً لكن لهذا الشريك علاقاتٌ أخرى، وأبسط مثال عليها تعدد الزوجات (الشرعي) لرجلٍ واحد يجعل زوجته ضحية للمرض إذا كان هو (زوجها الشرعي وشريكها الوحيد) أو زوجته الأخرى مصاباً/ةً بالفيروس، هنا فرصتها في أخذ اللقاح تجعلها محمية، بينما منع أهلها اللقاح عنها عندما كانت طفلةً استناداً إلى موروثٍ أرعبهم أكثر من السرطان.
مواد أخرى للكاتبة: