ريتا باريش. لقمة تدخل القلب خير من ألف كلمة تخرج منه
نتعرف في مجتمعاتنا المضيفة إلى أصدقاء جدد، نبادر نحوهم ببناء جسور الثقة كما يملي علينا موروثنا وثقافتنا، ولهذا أتناول هنا موضوع المطبخ وأثره في الاندماج.
فبالابتسامة والانفتاح وكرم الضيافة نعلن لهم بطريقتنا أنهم “على الرحب والسعة”، وقبل أن نخبرهم عمّن نكون بالكلمات، التي قد لا نتقنها بلغتهم، نختصر الرحلة فندعوهم إلى مائدتنا لتناول طعامنا، فنردم بذلك جزءاً من الهوة التي تفصلنا فلا نعود غرباء. وليس من قبيل المبالغة القول أن تشارك الخبز والملح تعبيرٌ موجودٌ لدى معظم ثقافات العالم.
يحمل الطعام رسالة تواصل مكثّفة عابرة للتاريخ والجغرافيا، مشحونة بالدلائل والبيانات، تخاطب الحواس الخمس منفصلة ومجتمعة. فللطعام إذاً أكبر الدور في التعريف بهويتنا الثقافية الجمعية، كما أنه وفوق ذلك، يحمل بصمة شخصية قوية، تتموضع فوق بصمة الهوية العامة، فترصدها عين العارف المتبحر ويميزها لسانه المتذوق.
قل لي ماذا تأكل أقول لك من أنت:
يفتح الطعام نافذة من الفضول لاكتشاف الآخر وسماع قصته. كثيراً ما أضبط نفسي متلبسة وأنا أتلصص على مشتريات الشخص الذي يقف قبلي في طابور السوبرماركت، أحاول التنبؤ بنمط حياته وحجم عائلته، أرسم ملامحه وأصوله، وأقيم درجة انفتاحه وجرأته. أحياناً أخرى وفي غمرة ثورة الفضول، أحدق في أطباق الناس في المطاعم المختلفة. أجعل من الأمر برمته لعبة، لعبة ثقافية قد تمنحني تفاصيل إضافية لكي آلف هذا البلد وسكانه.
ماذا أخذنا وماذا أعطينا:
يجمع كل من يتذوق المطبخ السوري على أنه لذيذ ومتوازن، لا نمل من سماع التعليقات وعبارات الإطراء تلك تنهال علينا من زملائنا في العمل والدراسة والأصدقاء والمعارف في بلداننا المضيفة وهي تمتدح طعاماً سورياً تناولوه. نتحدى قسوة المواد ونحتال على اختلافها، فتولد طرق جديدة تعلن مرغمة القطيعة مع طريقة الأم والجدة. أو تتحول بمرور الزمن إلى وصفة أخرى تعمدت باسم البلد المضيف، كالكيبي البرازيلية التي وجدت بوحي من المهاجرين السوريين واللبنانيين الأوائل في مطلع القرن الماضي، وكانت محاولة منهم بالموارد الشحيحة لديهم آنذاك لمحاكاة الكبة في الوطن، غير أنها اليوم لا تشبه كبتنا في شيء على الرغم من كونها طبقاً لذيذاً مازال طعم البرغل والنعناع فيه يشي بمنبته الأصيل.
لدول الاغتراب ومطابخها تأثيرها علينا أيضاً، فتقارب الأذواق والموروث الثقافي يسرّع من عملية التبادل والتبني والاندماج وهنا برز دور المطبخ وأثره في الاندماج حول العالم، ولنا في المطاعم السورية التي انتشرت في تركيا ومصر والجزائر ولبنان والأردن البرهان الأكبر. من جهة أخرى، فإن جاهزية مطابخ البلدان المضيفة للانفتاح، وذائقة أبنائها عندما تقبل بيسر كل ما هو جديد، لهي عوامل تساهم في إيجاد موطئ قدم للمطابخ الوافدة. وهو ما يلاحظه المرء في بلدان مثل فرنسا وانكلترا وهولندا وأمريكا وكندا واستراليا. أما السبب فعلى الأرجح يعود لماضي تلك الدول واحتكاكها الباكر بثقافات مختلفة من خلال تجارتها ومستعمراتها، ومن ثم وفود موجات هجرة من أبناء تلك المستعمرات السابقة على مدى العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أو لكونها بلدان هجرة ساهم الوافدون إليها من كل حدب وصوب في تشكيل فسيفساء اللوحة المطبخية وإغنائها.
ألمانيا والمطابخ الوافدة:
تنتشر المطاعم الأجنبية على طول ألمانيا وعرضها، بعضها نجح في أن يصبح جزءاً من الحمية الألمانية ويرضي الأذواق بثقة كالمطبخ الإيطالي، وهو يتمتع بمكانة راسخة ورفيعة يجمع عليها الألمان على اختلاف ذائقتهم. أما بعضها الآخر، فلم يستطع الوصول أبعد من تقديم الوجبات السريعة أو تلبية احتياجات أبناء جالياته من الغذاء الملائم ثقافياً. فمثلاً، يتفاجأ المرء بواقع أن المطبخ التركي الذي دخل إلى ألمانيا مباشرة بعد وفود الإيطاليين مع مطبخهم، فعلى الرغم من كونه مطبخاً متوسطياً غنياً فقد ظل انتشاره الأوسع مقتصراً على تقديم وجبات الدونر والكباب السريعة، أما المطاعم، فبقي أغلب روادها من أبناء الجالية التركية وجاليات محيط منطقة الشرق الأوسط.
واقع المطبخ السوري اليوم:
مايزال مطبخنا السوري يطل إلى اليوم بخجل ويركز على اجتذاب زبائنه التقليديين بالدرجة الأولى. لكنه على قدر من الجرأة في إعلان تمايزه وهويته الفريدة التي تبرز اختلافه عن مطابخ شرق المتوسط الأخرى، فلا يتماهى معها، كما كان الحال في تجارب الوافدين السوريين الأوائل إلى بلدان الغرب، بل يسوّق نفسه على أنه “مطبخ سوري” بامتياز. ويطرح دوراً حقيقياً لـ “المطبخ وأثره في الاندماج”.
تمنحنا ألمانبا في شارع الزونن آليه البرليني مثالاً مميزاً وفريداً، فبالرغم من زحمة المأكولات الوافدة المختلفة هناك يجد المرء مساحات تجارية هامة، وقد تحول كل ما فيها في السنوات الأخيرة إلى نسخ طبق الأصل عن مطاعم سوريا، بديكوراتها وروادها ومأكولاتها وأجوائها ولغة لوائحها. ولربما مايزال من المبكر الحكم على التجربة السورية في تعزيز الاندماج عبر الطعام، على غرار تشايناتاون وليتل إيتالي في نيويورك والمدن الكبرى، بالرغم من كونها تجربة مثيرة للفضول وجديرة بالمراقبة والدراسة. أي مستقبل ينتظر المطبخ السوري في ألمانيا، سؤال ستجيب عليه دون شك الأعوام القليلة القادمة.
اقرأ/ي أيضاً لريتا باريش: