رباب عدنان.
من شروط التحول لقاع مسخ التفكير وتفريغ الدلالات وتشويهها، ببساطة تعطيل اللغة وفرض الإشارات الخاطئة على طول الطريق وتفرعاته. وعملت أنظمتنا العتيدة على هذا طويلاً جدًا، وشاركها -لسبب كان مبهمًا يومًا ما- النظام العالمي وبلدان العالم الأول!
الثورة في سوريا لم تنجُ من هذه المحاولات: المسخ والتفريغ والتشويه والتحوير عدا عن سرقة الثورة.
الربيع العربي أنموذجًا؛
التسمية أطلقتها الصحافة الغربية، ويذكر بالعمليات العسكرية الأمريكية، وأسماء تصلح لرواية أو لفيلم أميركي مثل العزيمة الصلبة، وعاصفة الصحراء!
الفكرة: بعد واحد وأربعين عامًا من حكم نظام الأسد وابنه لسوريا. واثنين وأربعين عامًا من حكم القذافي لليبيا. وأربعة وعشرين عامًا حكم فيها بن علي وزوجته تونس. وثلاثين عامًا لمبارك على مصر، ويحكم البشير السودان منذ واحد وثلاثين عامًا للسودان ولا يزال.
إنها الأنظمة التي رعتها اتفاقية سايكس-بيكو-سازانوف بشكل مباشر، حراس الاتفاقية وخط دفاع حقيقي لوعد بلفور، أنظمة زرعت البؤس والهرم فينا كأفراد ومجتمعات وثقبت النسيج الأخلاقي وبعثرت إنسانيتنا وفرديتنا وبالتالي كرامتنا، لذا فهي ثورة وليست عملية عاصفة الربيع العرب-داعشي، بل ثورة. وهذه كانت المحاولة الأولى لسرقتها.
المحاولة الثانية
عندما تم تسليح الأطراف كلها، وفاضل التمويل بين المتشددين والأكثر تشددًا. وفي هذه اللحظة ظهرت داعش: البذرة التي زرعت شجرتها الأساسية بشكل مباشر أمريكا في أفغانستان، وحملوا بذرة منها لأرض العراق المقلقلة بعد الغزو الأميركي لبلد أسلحة الدمار الشامل المفترضة. تمت العناية جدًا ببذور داعش لتنبت هنا واشترك بالعناية بها كل الأطراف، الذين شكلوا فيما بعد ما يسمى قوات التحالف، مع مخابرات النظام وإيران وروسيا ودول الجوار.
المحاولة الثالثة
تأبطت ذراع المحاولة الثانية، بل بدت كمرحلة ثانية من المحاولة الثانية: التمثيل السياسي الساذج للمعارضة. تدفق الأموال غير المفهوم لأفرادٍ بدا أن المطلوب منهم بشكل أساسي ألّا يسألوا ما المطلوب في هذه اللحظة، بل أن يتابعوا الصراخ والضجيج الذي كان قد بدأه النظام.
والمطلب الثاني أن يفنوا بعضهم ويضيعوا البوصلة تمامًا ثم يذوب كل منهم بطريقة مبهمة ليصعد بدلاً منهم أفراد أكثر جهلاً وبعدًا. بدت الدبلوماسية الرسمية للنظام أكثر تطورًا منهم -هم الممزقين شيعًا حسب التمويل والتوظيف. وللصدفة المفهومة وربما المدروسة لم يأتوا بجديد بل حتى لم يأتوا بخطاب مختلف عن خطاب النظام! وفاز النظام بهذه الجولة.
المحاولة الرابعة
عندما ضرب العالم المتحد على صدره وحرك جمعياته التي راحت تندب فوق رؤوس النساء والأطفال المهجرين في الداخل وكل المهجرين واللاجئين في الخارج، الغرقى والناجين. أصبحنا صورة للبؤس، يزين بؤسنا الشاشات الكبيرة لمؤتمرات العالم المتحد وفي الإعلام اليوم وكأنها لم تكن ثورة؛ بل حرب فيها فصائل مختلفة وقضايا معقدة وسلاح وقتل يؤدي لاضطهاد وتشرد، وصوت عويل وجثث أطفال على الشاطئ. و”انقذوهم ..أنقذوهم” بمزيد من مراكز إيواء في الأردن التي تأبطت لوائح مهجرينا لتستلم عنهم الإعانات، كما فعل النظام السوري قبلاً بالعراقيين والفلسطينيين. وتركيا التي تبادل قضية اللاجئين كعملة لدخولها أي حلف كان، مرة في حلف الإتحاد الأوروبي ومرة –نكاية بالاتحاد الأوروبي- مع الحلف الروسي.
وقفة
هنا يجب أن أقف عند لحظة جميلة في الشهر الثالث من عام ألفين وستة عشر، مع إعلان الهدنة في سوريا بعد خمس سنوات على بداية الثورة، استغل السوريون الهدنة في بعض المدن وأعادوا تسيير مظاهرات تطالب بإسقاط النظام (كل جمعة بعد صلاة الظهر) وهذا أمر خاص بسوريا الثورة؛ كل جمعة؛ حراك مدني سلمي غير مسلح –قدر المستطاع الإنساني- وقعت مسؤوليته على عالم الشارع، واعتمد نقطة تجمع في مكان فيه مسارب تسمح للهرب والاختباء في مناطق يعتمد على دعم سكانها للثورة.
وجمعة بعد جمعة ترافقت المظاهرات مع ازدياد وحشية النظام في قمع وقتل وخف وترهيب المشتركين بها أو القائمين عليها، وحتى الجمهور أحيانًا لم يسلم. وإن لم يتولى النظام وحلفاؤه الرسميين قمع المظاهرات، تولتها التنظيمات الحليفة غير الرسمية من داعش وجيوش الإيمان المختلفة وأحزاب الله والشيطان. ثم جاءت الهدنة بعد فترة قصيرة نسبيًا من بدء الهجوم الجوي من سلاح الجو الروسي الذي أقام رسميا في سوريا (أيلول 2015)، و عادت أسماء الجمع المدنية وعادت الهتافات المدنية. وكانت لحظة جميلة.
المحاولة الخامسة
في أغسطس من هذا العام 2016 نشرت صحيفة النيويورك تايمز المصونة مشكورة تقريرا قالت إنها عملت عليه لمدة ثمانية أشهر، وللمرة الأولى تخصص كل هذا الورق لقضية واحدة وكانت دليل المحاولة الخامسة للسرقة بتعزيز مصطلحات مثل الربيع العربي، واختفاء كلمة ثورة تقريبا بشكل كامل، ذكر الحرب التي تدار في سوريا كحرب أهلية في أكثر من مكان، التبشير بعدم قيام دول مثل العراق وسوريا وليبيا كدول فاعلة بعد هذه الحروب (!) تحوير حقائق كأن تقول إن الربيع العربي هو من ارتدادات الحرب الأميركية الخاطئة على العراق. (اللعنة إنها ليست خاطئة بالمرة لأنها حققت كل المطلوب منها وأكثر، مثلاً نشوء جماعات إسلامية متطرفة تعمل كالدخان عل خنق المناطق الثائرة التي لا وقت للنظام وروسيا وميليشيا إيران الشيعية المتطرفة العمل فيها). وإخفاء حقيقة واضحة أن هذه الثورة قادها إحباط الأفراد في البلدان التي أضحت تنتمي للعالم الثالث وأكثر، بسبب الأنظمة التي وضعتها الحرب العالمية الأولى (اتفاقية سايكس-بيكو-سازانوف) وحافظت عليها كحراس لهزيمة الشرق الأوسط المتعب والمكدوم. ووردت إشارة لهذه الحقيقة بجملة واحدة لا أكثر على طول التقرير. شاكرين موضوعيتهم.
هذا ما يخطر لي الآن وأنا أكتب مقالتي عن الشرق الأوسط بنسخته الأخيرة التي يأمل مدراء الألعاب في الدول العظمى التي صنعت الاتفاقية للشرق الأوسط الأول تحقيقها أخيرًا. خصوصا بعد أن كبرت أميركا وباتت قادرة على النكح، وتعافت ألمانيا من اتفاقية فيرساي وعادت روسيا القيصرية بنسختها البوتينية الجديدة لتأخذ حصتها التي أجلتها صعود الشيوعية قبيل الحرب العالمية الثانية…
ويمر في ذهني مشاكل أخرى صغيرة تواجهها الثورة المدنية كتولية الشخص غير المناسب بالمكان الأكثر حساسية، ورؤوس الأموال الموجهة لتيارات على حساب قضايا، والصور البائسة للسوريين في الداخل والخارج، وأشكر هنا أنجلينا جولي لمؤازرتها وتعبها الكبير معنا: قدرها الله على فعل الخير. وفيلة السيرك التي تدور بصور أطفالنا المغبرين في طوابير المعونات البائسة في كل أنحاء العالم، وأمال كلوني التي حاولت جاهدة زج اسمها بقضايا الربيع العربي عن طريق المحاكم. والمسؤولين السوريين عن المشاريع الصغيرة لدعمنا نحن السوريين المدنيين المتعبين جدًا، وندعو الله أن يستمتعوا بمكاتبهم وعلاقاتهم الجميلة في أوروبا وإلى الأمام، والحرامية الصغار بحجة الداخل السوري التعيس لم يستطيعوا أن يوصلوا لنا أية مستحقات، أو أن يسرقوا أعمالنا ويوقعوها بأسمائهم حرصًا منهم على سلامتنا في الداخل…إلخ!