رشدي الصافي | كاتب صحافي مغربي مقيم في ألمانيا
عرفت أوروبا وألمانيا بالخصوص في الآونة الأخيرة، تدفق عدد كبير من اللاجئين، من سوريا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو الوضع الذي خرج عن سيطرة دوائر الهجرة التي تنظم هذا الغرض.
في ألمانيا على سبيل المثال، مع هذه الحركة الفجائية، تنامت من جهة الخدمة التطوعية من طرف الهيئات غير الحكومية والمجتمع المدني الذي أعرب عن سعة صدره، لاحتضان الأزمة وتسهيل عمليات الاندماج.
وفي نفس الوقت كان هذا الوضع الجديد، مناسبة لبروز نوازع متمثلة في نشاط منظمات عنصرية معادية للأجانب، وكذلك فرصة لليمين (المتطرف) المعادي لسياسة ميركل الترحيبية، في كسب ناخبين جدد والظهور بمظهر (الراعي) لمصلحة ألمانيا. الشيء الذي جعل الحكومة الألمانية تتخدد قرارات ارتجالية لا محسوبة، لحل الأزمة، وإرضاء لليمين (الغاضب) وتجديدا للثقة مع الناخبين. من بين تلك القرارات، أن أقدم السيد وزير الداخلية الألماني “توماس دي ميزيير” على خطوة سابقة، من خلال قيامه بزيارات رسمية لبلدان شمال افريقيا (المغرب، الجزائر، تونس)، من أجل الاتفاق حول صيغة (ترقيعية) كي يتم إرجاع كل المغاربيين إلى بلدانهم، باعتبارهم مهاجرين لا تنطبق عليهم صفة اللاجئ. وقد توجت زيارته التي كانت في التاسع والعشرين من فبراير من السنة الماضية، باتفاق مشكوك في مجرياته وكواليسه، قاض بإرجاع كل المغاربة إلى بلدهم بعد أن تركوه طواعية من خلال استغلالهم لفرص التهريب من سواحل تركيا وليبيا، حسب ما صرح به الاعلام الرسمي في المغرب خصوصًا.
شخصيًا لا يزال لدي فضول في معرفة كم قدم السيد دي ميزيير من يورو مقابل كل (رأس) مغربي يتم إرجاعه. وعندما أقول رأس، فإني لا أجد أي مبالغة في ذلك، لأن هذا هو منطق الحكومة المغربية عندما يتعلق الأمر بمواطنيها، فهي تعتبرهم مجرد رؤوس أغنام، قابلة للبيع والشراء. لم يقف السيد الوزير عند هذا الحد، بل ذهب لأبعد من ذلك من خلال إعلان قرار تاريخي مع أنه اعتباطي، ينص على تصنيف البلدان المغاربية (تونس، الجزائر، المغرب) على أنها بلدان آمنة. الشيء الذي أحدث جدلاً واسعًا داخل البرلمان الألماني، ولولا معارضة أحزاب يسارية لتم إقراره رسميا.
ما لا يعرفه السيد الوزير أو بالأحرى يحاول التغاضي عنه، هو أن قرارًا متهورًا مثل ذلك. لا يرتبط فقط ببضعة لاجئين بالكاد يمثلون حتى اثنين في المئة من إجمالي عدد اللاجئين الذين دخلوا ألمانيا سنة 2015، بل يرتبط أيضا بخمسة وثلاثين مليون مغربي يعيشون في شروط (لا آمنة)، ثلثهم تقريبا يعيش تحت عتبة الفقر. ما لا يعرفه السيد الوزير أن أولئك الذين باع واشترى معهم، لا يمثلون المغاربة، بل يمثلون أنفسهم. لأنهم السبب وراء لجوء الشباب المغربي إلى الهجرة السرية التي حصدت أرواح الكثير منهم في الماضي والحاضر، فقط من أجل أحلام غاية في البساطة، أو لنسميها حقوقًا أساسية انتزعت منهم. بعد أن يئسوا من سياسات التفقير والتعطيل والقهر والاستبداد وانعدام الأمن، التي تمارسها عصابات سياسية.
أظن أن السيد الوزير كان عليه إعادة النظر في مفهوم الأمن باعتبار هذا الأخير مفهومًا له ابعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية قبل أي تهديد مباشر، وليس بالضرورة أن يكون نقيضًا لحالة الحرب. فهناك الأمن الغذائي والصحي والاقتصادي، كشروط أساسية لتحقيق الأمن والسلم الاجتماعيين. لو عاد السيد الوزير إلى تقارير منظمة الفاو والصحة العالمية، ومؤشرات التنمية، وتقارير حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، عن المغرب، لما نطق بذلك المفهوم الفضفاض. لكن على ما يبدو أن السيد الوزير ليس لديه الوقت لقراءتها وتمحيصها.
مثل هذه القرارات تجعل المرء يتساءل:
ما مشكلة السيد وزير الداخلية الألماني مع المغاربة؟ أو لنكن أكثر دقة في طرحنا للسؤال، ما مشكلة الحكومة الألمانية والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين مع اللاجئين المغاربة؟
إذا كانت كل هذه الضجة، ردة فعل على أحداث التحرش الجنسي الذي تورط فيه بعض المراهقين من شمال أفريقيا، في مدينة كولونيا خلال احتفالات رأس السنة ـوالذي يبقى في النهاية فعلاً مرفوضًا ومدانًا بكل القيم الكونيةـ فهذا لا يتناسب مع التعقل والرؤية المعقولة والحكمة السياسية الرشيدة. التي تقتضي عدم تعميم أي حكم، لأن أي سلوك يمثل فاعله. كما أن هناك قوانين جنائية، يمكن بموجبها محاكمة كل الجناة.
إذا كانت كل تلك القرارات تصب في مصلحة ألمانيا والشعب الألماني، فإن هناك قرارات أهم من ذلك كان يجب اتخاذها في حق من يشكلون الخطر الأكبر على ألمانيا. والمتمثلة في مراجعة كل الإقامات التي قدمتها ألمانيا ولا تزال، لإرهابيين قادمين من مناطق أخرى. ولجنود قاموا بجرائم ضد الإنسانية وانتحلوا صفة لاجئ. فتقديم الحماية لهؤلاء يتعارض مع وصايا المفوضية الأممية التي تنص على أن اللجوء لا يشمل الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم ضد السلام، أو جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم جسيمة غير سياسية خارج بلد اللجوء.
يمكن أن نجمل سياسة اللجوء التي اتبعتها ألمانيا في الآونة الأخيرة، في أنها سياسة غلب عليها أولا طابع العشوائية، فيما يخص التدقيق في هوية اللاجئين. ما جعل العديد من الإرهابيين ومرتكبي جرائم الحرب يستفيدون من الحماية والإقامة. وهذا ما يتنافى كما أشرنا سابقا مع بنود اتفاقيات جنيف منذ 1951 التي سطرتها المفوضية الأممية.
من جهة أخرى اتسمت سياسة اللجوء في ألمانيا بقرارات يطبعها الجانب السياسي أكثر منه الإنساني، وهي قرارات يمكن اعتبارها مجحفة في حق اللاجئين من بلدان شمال أفريقيا بالتحديد. بحكم أنها صيغت بناء على منحى حركة الهجرة، التي عرفت تدفقًا كبيرًا جدًا في الآونة الأخيرة. وتغليب مصالح الصراع السياسي الذي يعرف شرخًا كبيرًا بين معارض ومؤيد، حول قضية اللجوء. تلك القرارات كانت معظمها متعارضة مع مبادئ حقوق الإنسان، وحتى مع اتفاقيات اللجوء نفسها. فقرار ترحيل المغاربة، هو قرار يتنافى مع بنود اتفاقية جنيف التي تنص على عدم إرجاع أي لاجئ رفض طلبه وكان متشبثا بعدم رجوعه. فإما تتم إعادة توطينه في بلدان أخرى مضيفة أو بلدان “ثالثة”.
يمكن القول إن الحكومة الألمانية مصرة على تقديم كبش فداء ممثل في اللاجئين من شمال أفريقيا، لأجل إرضاء اليمينين، وسد ثغرة الانفلات الذي حصل العام الماضي، وكذلك طمأنة الرأي العام الألماني القلق، على “أن بإمكانهم فعل ذلك” ولو على حساب التعارض مع الإنسانية والمواثيق الدولية. لكن ما لم ينتبه له وزير الداخلية وكل من يؤيده، أن سياسته هذه، قد تنجم عنها عواقب اجتماعية على المجتمع الألماني والأوروبي، بحيث أن العديد من اللاجئين سيفرون إلى مدن مجاورة، أو بلدان أوروبية أقل رقابة في حالة صدور قرار الترحيل، وبالتالي سوف يكون البعض منهم عرضة للتطرف بكل أشكاله، كامتهان السرقة، أو الجريمة المنظمة. وسيؤدي هذا الرفض والنبذ الاجتماعي الذي تكرسه السياسات الحكومية في أوروبا ، إلى تنامي الحقد والسخط على كل القيم الإنسانية المنشودة. وبالتالي قد تكون نسبة من اللاجئين عرضة لغسيل الدماغ والاستغلال من طرف الخلايا الإرهابية التي تنشط في معظم الدول الأوروبية. مستفيدة من الثغرات الاستخباراتية وجو الحرية. فعملية الترحيل التي يسعى مكتب الهجرة لتنفيذها، يمكن الجزم أنها لن تنجح مطلقا. وليست هي الخيار الأمثل، وذلك لأن غالبية المغاربة، من المستحيل أن يعودوا إلى بلدهم “بخفي حنين”. لأن عودة من هذا القبيل مرتبطة في مخيلة المغربي بالعار والدونية والاحتقار من طرف المجتمع، أوروبا هي ذلك الخيار الوحيد الذي كان متاحًا ولا يزال أمام المغاربة منذ عقود، لإيجاد فرص عيش كريم، والدليل على كل ما قلت هو أني خلال عملي على إخراج فلمي الوثائقي عن اللاجئين المغاربة، صادفت منهم من يعيش في أوروبا منذ ما يزيد عن خمس عشرة سنة بدون أدنى ورقة إقامة. ولا يزال متمسكًا ومتشبثًا بعدم الرجوع، وبتسوية وضعه القانوني.
يجب على مفوضية اللاجئين في أوروبا أن تعيد النظر في فلسفة القانون، التي من المفروض أن تخدم الإنسانية. بحيث أنه لا يوجد إنسان غير قانوني، بل توجد قوانين لا إنسانية، ومن حق أي إنسان أن يعيش وينتمي في أي بلد يريد، أو أن يترك أي بلد يشاء في إطار أن يحترم قانون البلد المضيف وخصوصياته الثقافية. إذا كنا نريد فعلا قطع شوط تاريخي في الإنسانية. لقد حان الوقت لنضع حدًا لهذا التصنيف العنصري، بين إنسان بوثائق وآخر من دونها. لأن هذا لا يغذي إلا نوازع الكراهية والتطرف. كما يجب على مفوضية اللاجئين أن تعدل من بنود الاتفاقيات، كي تكون أكثر مرونة مع إفرازات الهجرة في الوقت الراهن، وشروطها الاقتصادية. وكذلك إعادة صياغة مفهوم اللاجئ ومفهوم البلدان الأمنة. فاللاجئ اليوم ليس هو لاجئ الأمس، كما أنه لا توجد بلدان آمنة في العالم الثالث، في ظل التبعية الاقتصادية والسياسية التي ترسخها دول الشمال. مفهوم الأمن الآن، ليس هو تلك الحالة التي يغيب فيها قصف جوي بصواريخ أمريكية أو ألمانية الصنع. وليس أيضا غياب حالة التهديد بالقتل أو الاضطهاد فقط، لأنه لو كان بتلك البساطة لتوقف كل اللاجئين السوريين في تركيا أو اليونان أو في أي بلد في أوروبا الشرقية وطأته أرجلهم أول مرة، باعتباره بلدا خال من الحرب. لكن بما أن التهديد الحقيقي يعني: غياب العيش الكريم وضمان صحي وفرصة عمل وفرصة تعليم، فإن كل اللاجئين السوريين انكبوا على ألمانيا ودول متطورة صناعيًا وخدماتيًا بإمكانها تحقيق حقوقهم التي لم ينالوها في بلدهم.
لهذا يجب الأخد بعين الاعتبار أن الشباب المغاربة، ليست المرة الأولى التي يتجهون فيها لأوروبا طلبا للنجدة، بل هم أول من قطعوا المتوسط ومُلئ عرضه بجثثهم منذ عقود. من أجل دافع واحد، وهو دافع الخوف من الموت فقرا وقهرا، في واقع قاسٍ وخطير على العيش. بكل المقاييس والمعايير الإنسانية. فالقهر الاجتماعي، لا يترك للإنسان خيارات، بل يدفعه لفعل أي شيء مقابل العيش بطمأنينة وسلام.
سأختم مقالي هذا بمقتطف لـ “روبرت مكنمارا” في كتابه “جوهر الأمن”. والذي أسس لمفهوم جديد للأمن، يقول: “إن الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها، والأمن ليس القوة العسكرية وإن كان يشملها، والأمن ليس النشاط العسكري التقليدي وإن كان ينطوي عليه. إن الأمن هو التنمية ومن دون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن. والدول النامية التي لا تنمو بالواقع، لا يمكن ببساطة أن تكون آمنة”.