سردار ملا درويش. صحفي سوري كردي
كانت الساعة الثالثة عصرًا، الموعد الذي بدأ فيه انتشار الصور عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صور قادمة من مدينة سري كانيه\رأس العين، شمال شرق سوريا، لخطوط طائراتٍ محلقة تتجهز لقصف المدينة. في نفس اللحظة بدأ الأهالي بترك كل شيء خلفهم، باحثين عن الفرار والنجاة من الموت، فامتلأت الشوارع، وفرغت المنازل، أناس يتجهون لخارج المدينة، لإنقاذ أرواحهم من المجازر.
بعد الساعات الأولى شهدت المدينة قصف بعض المواقع، حتى تم إخلاؤها بشكل شبه كامل، فكان المشهد لأناسٍ يفترشون الطرقات، وسياراتٍ تتجه نحو طريق الحسكة، الأكثر أمانًا من طريق الدرباسة- قامشلو الحدودي، خشية الاستهداف، ليستقر الأهالي بين تل تمر والحسكة، وقامشلو وصولًا لديريك\ المالكية، عبر طريق تل تمر- قامشلو.
عاش الأهالي لحظاتٍ كالخيال، بينما تنفذ تركيا تهديدات لطالما أرّقت الأهالي، الذين لم يتوقعوا أن تتخلى حليفتهم الولايات المتحدة عنهم، وهم الذين حاربوا داعش وقضوا عليه كتنظيم.
ماذا تريد تركيا من شرق الفرات
منذ تشكيل الإدارة الذاتية الديمقراطية في المنطقة، والتي تضم الكرد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان والشيشان والشركس، تحاول تركيا ضرب هذا المشروع، فتشكو من أنه مشروع كردي يقوده حزب العمال الكردستاني. ومن هنا عقدت تركيا الصفقات المختلفة مع روسيا والولايات المتحدة، أو بشكل أدق مع “الرئيس ترامب”، في سبيل إنهاء هذا المشروع خاصةً بعد زوال داعش، لتبدأ أنقرة بين الفينة والأخرى بتهديد المنطقة، في نفس الوقت الذي كانت فيه تغذي نوعاً من الصراع السوري- السوري، وتقوم بدفع طاقات الصراع القومي بين الكرد والعرب، بحجة قيام الكرد بتهجير العرب من المنطقة.
لم يأتِ ضغط تركيا على شرق الفرات من فراغ، فمقابل أن تركيا ترى في المنطقة كيانًا كرديًا يتشكل على الجانب الأخر من حدودها، كان قد سمح لها باحتلال عفرين سابقًا وباتفاق مع روسيا، فيما اليوم تعقد اتفاقًا مشتركًا مع روسيا مقابل تسليم إدلب للنظام، ومع الولايات المتحدة عبر الرئيس ترامب، بوعودٍ بأن تركيا ستدير المنطقة وملف داعش!.
رأس العين والاستباحات الثلاث
بين عامي 2004 و 2019، تعرضت مدينة سري كانيه شمال شرق سوريا، لنكبات متقاربة، ففي عام 2004 إبان الانتقاضة الكردية في وجه النظام السوري، دفعت المدينة ثمن مناهضة النظام من قبل الكرد، حيث دعم النظام السوري مجموعات غير كردية، في وجه الكرد دفاعًا عن النظام، وقال أحدهم آنذاك “نحن نحمي الدولة من الكرد الذين حطموا تمثال الرئيس الأسد”. وفي عام 2012 بعد أكثر من عام ونصف من مشاركة الكرد في التظاهرات التي بدأت في سوريا في آذار 2011، قامت فصائل المعارضة السورية المسلحة، باجتياح المدينة في 8. 11. 2012 بدخول نحو ٤٨ فصيل عسكري من مناطق سورية مختلفة، وعبر بوابتين، الأولى بوابة الحدود مع تركيا حيث المدينة حدودية، والطريق الآخر غربي المدينة.
لم يكن للمدينة التي تبعد عن دمشق مركز الحكم 900 كم، أي رمزية سوى أنها البوابة والمدخل لمناطق الكرد في سوريا، فمرور المعارضة عبر تركيا إلى سري كانيه، يظهر دعم تركيا المباشر للفصائل، لكن تلك الفصائل لم تصمد كثيرًا أمام رفض الأهالي لهم، وتشكيل قوى محلية مسلحة قامت بطرد الفصائل التي عملت تحت إمرة فصيل (غرباء الشام). وكانت معظم الفصائل ذات توجهٍ راديكالي تقودها شخصيات عملت أخيرًا مع “جبهة النصرة” و”تنظيم داعش”، أمثال “مهيمن الطائي” الذي قتل على يد النظام في معركة بين داعش والنظام في تدمر، و(صدام الجمل) أحد أخطر رجال تنظيم داعش وهو معتقل في العراق حالياً، ثم بايعت الفصائل النصرة وداعش بعد أن تم إبعادها عن المدينة.
شرارة الكرد ضد التطرف
بعد طرد الفصائل المتطرفة من مناطق سري كانيه وريفها، بدأ نجم المقاتلين الكرد في الصعود، وهنا كان ظهور تنظيم داعش، ومع قرار المجتمع الدولي محاربة التنظيم، تمت الشراكة بين وحدات حماية الشعب والتحالف الدولي في مواجهة داعش في معارك ممتدة بمناطق واسعة في سوريا، والتي انتهت قبل مدة بالقضاء على آخر جيوب داعش في “الباغوز” بريف دير الزور.
نبع السلام.. الأهداف البعيدة والقريبة
كان لا بد من ذكر المسار التاريخي للسنوات الماضية لكثافة الأحداث ولنسيان ترتيبها، فقد أسفرت جميع هذه الظروف، عن فرصة تركيا بتجييش الصف العربي في وجه الصف الكردي في سوريا، مع زرع فكرة أن تركيا تحمي حدودها من حزب العمال الكردستاني كما تبحث عن حقوق العرب والسنة ضد الكرد.
بدت الفكرة مثاليةً للسوريين المناهضين للسلطة، الذين تمسكوا بدور تركيا على أنها منقذهم الوحيد مع شعارات البعض عن تركيا (إردوغان) حاملة الإرث العثماني. كانت تجربة هذه الفئة من المعارضة السورية وما تزال على حساب كل القيم والمبادئ وحتى أهداف الثورة التي خرجت لأجلها.
من هذا التوافق بدأت عملية “نبع السلام” التي يصفها محللون بـ”نبع الدم” فيما يطلق أهالي شرق الفرات عليها “نبع الإجرام”، وذلك بالتزامن مع صور الدمار والقتل والقصف والنزوح، والأخبار الواردة من داخل مدينتي سري كانيه وتل أبيض، وأيضًا الصور والأخبار المتواردة باعتماد تركيا على فصائل متطرفة، شاهدنا كيف ارتكبت انتهاكات وجرائم قتل وجرائم حرب، لم تتوقف عند القيام بتصفية السياسية الكردية “هفرين خلف” على الطريق الدولي الواصل بين قامشلو والرقة، وتم قتلها بإعدام ميداني وبدم بارد، مما يشير لوحشية هذه الفصائل وحقدها على الأهالي.
شرق الفرات على طاولة الحلفاء
كانت الشراكة بين قوات سوريا الديمقراطية كقوة عسكرية في منطقة شمال شرق سوريا، مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي، تبين أن هناك مشروع طويل الأمد بين الطرفين حتى بعد مرحلة الانتهاء من داعش، وهي مرحلة الاستقرار وتقويض فكر الإرهاب وضمان عدم عودة التنظيم، مقابل هذا عملت قسد على تبديد العديد من مخاوف تركيا وبات قوام المقاتلين العرب فيها كبيراً كي تؤكد على أنها ليس لديها مشروع انفصالي، لكن جميع هذه الآمال تصادمت مع قرار ترامب أواخر العام الماضي بالانسحاب من سوريا، وهي الثغرة التي أعطت تركيا فرصةً لتحالف جديد، بعد احتلال عفرين بالاتفاق مع روسيا، والبدء بمنح مناطق المعارضة لروسيا والنظام السوري، فوصل إردوغان للتوافق مع ترامب، شن على إثره الهجوم على شمال شرق سوريا، في الوقت الذي وقفت الإدارة الأمريكية بوجه قرار ترامب الداعم للتدخل التركي.
مقابل هذا المشهد كانت الخيبة الأكبر للكرد من المعارضة السورية، التي أبدت بغالبيتها دعمًا صارخًا لعملية “نبع السلام” وبذلك أسقطت قيم ومبادئ الثورة.
إن التوافقات التالية لتركيا مع روسيا والولايات المتحدة في حال استمرت، مع تخلي الولايات المتحدة عن حليفها، ستكون مشروعاً يخدم النظام السوري ويقويه من جديد، كما سيعزز الدور الإيراني في المنطقة بالتزامن مع إضعاف السوريين بكل تياراتهم، ليبقى السؤال! هل سنكون أمام صراعات سورية جديدة.