مذ خطوت داخل المقهى، هبت ذكرى غريبة، لم أتوقع أنها مازالت في عقلي الباطن: غرفة الضيوف في بيت عمي الذي زرته آخر مرة منذ خمسةٍ وعشرين عاماً.
لون الجدران “الفستقيّ”؛ الطلاء المتسخ قليلًا في الأسفل فوق مستوى الأقدام، طاولة السفرة في زاوية الصالة، التي صُممت أصلاً بشكل حرف لـ، القنطرة الفاصلة بين تلك الزاوية وباقي الصالة، والتي كانت في تلك الأيام موضة راقية، صحون السيراميك المعلقة على الجدار، الكنب الزيتيّ المخمليّ، تتدلى في أسفله شراشيب مجدولة ومعقودة، داكنة النهايات لكثرة ما لمّت من غبار. تبدو كراسي الخيزران وكأنها لا بد منها في هذه الصالة، لتجعل التطابق شبه كلي، بين هذا المقهى وبيت عمي العزيز.
أغلب الزوار ألقوا التحية على الفتاتين العاملتين في المقهى، وكأنهم أصدقاء منذ زمن، أو على الأقل زبائن دائمون. أربعةٌ آخرون تبادلوا معهما العناق. ما أدفأهما. في الشام.. في زمنٍ سابق، لطالما كنت طرفاً في العناق، فما كنت لأرضى بصلةٍ لا تقارب الحميمية إلى ذاك الحد.
الأريحية التي يفرضها المكان احتلتني، رغم أني طوال سنة، كنت أدور صعوداً ونزولاً، ليلاً نهاراً، في زوبعةٍ مملةٍ من اجترار الحنين وآلام الغربة، وجدْتُني فجأة، أجد الكثير من الوطن، في عدة مقاهي صغيرة بسيطة متناثرة هنا وهناك، كغرف الضيوف في بيوت أصدقائي وأقاربي. قررت.. لا لم أقرر، جاء التغيير ببساطة دون تفكير مسبق، وانتبهت فجأة بأنني لست حزينةً، ولست حتى وحيدةً، رغم أنني لم أجد بعد أي صحبةٍ ترافقني في هذه المقاهي.
الازدحام من جهة، الانشغال بأشياء غريبةٍ تمتص الطاقة دون أن تكون ذات نتائج تذكر، مرور الوقت الرهيب الموهن غير الفعال.. كل هذا لا يزعجني، ليس الآن على الأقل. ورغم أنه كان على رأس قائمة الأسباب الموجبة للاكتئاب سابقاً، أجدني الآن استمتع بهذا الفراغ الكلي، وهذه السيطرة للاجدوى.
وأنا هنا، على طاولةٍ في الزاوية، أنتظر لقاء صديقٍ لن يأتي، لأنني ببساطة جئت أبكر من الموعد بيوم كامل. أستمتع بخفة الوقت، وباكتشافي البسيط بأنه لا يحقّ لأحدٍ أن يسألني من أين أنا، ولا عن موقفي من القضايا الكبرى، ولا عن وطني، ولا عن تنديدي بالتفجيرات الأخيرة، ولا حتى عن رأيي بالثورة. يحق فقط لتلك الفتاة اللطيفة أن تسألني، ماذا أشرب.
اقرأ أيضاً: