كتب النص بالإنكليزية: أمين المغربي
ترجمه من الألمانية: أحمد الرفاعي
نُشر هذا النص بالألمانية في 24 آب/ أغسطس 2018 في جريدة دي تسايت Die Zeit الألمانية وعلى موقعها الالكتروني بعنوان: Die Rückkehr، وسننشر النص كاملاً بالعربية وعلى ثلاثة أجزاء.
ليس هناك إلا الأطلال في مكان كانت البيوت فيه يوماً ما عامرة. ليس هناك إلا القتلى، في مكان كان مليئاً يوماً بالحياة! هرب كاتبنا من سوريا عندما كان يافعاً، ولكن كيف يمكن أن تكون العودة إلى هناك الآن؟
في أدب الجريمة عادة ما يعود المجرم إلى مكان جريمته، يعاين في وضح النهار ما سبق واقترف بحق ضحاياه. هم يتمدّدون هناك جثثاً هامدة، وهو يسرق من أشكالهم شعوراً بالرضى! يسارع لإخفاء ما تبقى من آثاره، يبدو حذراً ألا يعثر أحد على بصماته، ويطمئن بأن جريمته كاملة بما فيه الكفاية. أما تُردّ الضحية إلى مسرح الجريمة للإمعان في تعذيبها، فهو أمر لم يرد بعد في آداب الجريمة! الأمر أشبه بإجبار ميت أن يعد بنفسه سرير الموت، ويزرع الورود على قبره ثم يسقيها!
مضت التاكسي الصفراء عبر الدوار، عبرت من تحت القناطر باتجاه بقايا ما كان يوماً جزءاً من عاصمة. إنها المرة الأولى لي في هذا المكان وبعد أكثر من خمس سنوات. يا له من زمن بعيد! لكنني تمكنت من تذكر ذاك الجدار مع لوحة قبة الصخرة المرسومة عليه. كأن كلتا القنطرتين على يمين الحائط ويساره جناحان. فيما مضى كان ثمة جملة مكتوبة هناك تقول إن الحرب ستستمر، وإن حق العودة ثابت متمسك به، وأشياء عن الرجولة والصمود. على الجناح الأيسر عًلقت كالخنجر صورة للأسد الأب، وعلى الأيمن صورة للابن! مُحيت الشعارات على القنطرتين بفعل القصف والاشتباكات، كما تم تدمير الجدار الشامخ، لم يبق هناك سوى صورتا الأسد الأب والابن الممزقتان واللتان تحييان الزائرين. رمقني الأسد الأب بابتسامة تحاول أن تبدو لطيفة، بينما كانت نظرة الابن موجّهة إلى الأفق؛ كان يريد أن يظهر بمظهر القوي الذي لا يُهزم، الأمر الذي لم يكن لائقاً به أبداً.
تخيّلت نفسي هناك في أكثر أحلامي شهوانية: مشانق مرفوعة ومجهزة. سنعدم الفاشيين عقاباً لهم على فظائعهم. نشمت بهم ونرقص وبعدها نبني مدينتنا الفاضلة. أرى الآن جنديين يعلقان علماً جديداً حيث لا ينتمي!
عيناي مفتوحتان. مسار رحلتي غير واضح لأتبين منه. لا أعرف كيف وصلت إلى هنا! ولا أية موجة حملتني مجدداً إلى شواطئي الأولى! الشوارع عريضة أكثر مما ينبغي، هناك بيوت أقل مما كان في ذاكرتي، ولكنها متداعية ومنخفضة. أًصبحت كلمة: مفعم بالحياة، مصطلحاً آتياً من قواميس اللغة لا أكثر. لا يوجد هناك شيء من هذا مرئي أو محسوس.
الهواء رمادي ثقيل، أسراب الذباب تغطّي حواف الطريق. منذ أسابيع لم يتساقط شيء من السماء، سوى قذائف، قنابل، صواريخ، أسلحة أتى بها الروس كي يجربوها هنا! حتى أنه سقط مرة جندي، نعم جندي سقط من السماء، تم إعدامه ورميه من سطح منزل، بعد أن قام أحدهم بوضع صاعق قنبلة في خوذته. السماء ملبّدة بالغيوم لكنها لا تريد أن تمطر!
جنود بالزي الرسمي الموحد ومرتزقة يسرقون يداً بيد، ودوماً يأخذون معهم كل ما يمكن حمله؛ تلفزيونات، برادات، غسالات، أسطوانات غاز، كنبات، صحون، ملاعق، شوك، حتى كابلات توصيل الكهرباء يتم سحبها من الجدران وتُسرق، نحاس ثمين. في الأيام القادمة سيتم سرقة حتى الكابلات الثخينة المزروعة تحت الأرض. وفي الوقت نفسه سيقطع أحدهم شبكات الهاتف عن طريق الخطأ عن الحي المجاور. ولن يرى أحدهم في لأمر غرابة، وسوف يجد المستهزئون ذلك مضحكاً! قسم كبير من الغنائم سيتم بيعها في أسواق (السنّة) خلال الأيام القليلة القادمة، ولن يرى أحدهم في الأمر غرابة. كم أصبح عدد هذه البازارات؟ لا أعلم. كم بازاراً جديداً سيقام؟ لا أعلم. كيف سيكون شعور من سُرق أثاث منزله ثم تم بيعه؟ سأعلم قريباً. كم ثلاجة يمكن أن يحتاج المرتزقة؟ لا أعلم. كم سينهب؟ لا أعلم، أو بقدر ما يستطيع على الأرجح. كم مرتزقة تحتاج سرقة لمبة؟ ثلاثة، الأول للمراقبة، والثاني للسرقة، أما الثالث فلإنكار الجريمة، إنكار مشاركته بها ومن ثم إنكار وجود اللمبة ذاتها. سيسأل عن الأمريكيين في فيتنام: “ألم يقوموا هم أيضاً بسرقة اللمبات في فيتنام؟”، وسوف ينعتك بالمنافق لأنك لمته على سرقة لمباتك، في الوقت الذي كان عليك أن ترافع لنصرة الشعب الفيتنامي.
يتبع…
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً: