بسام العيسمي. محامي سوري مقيم في النمسا
في المقال السابق استعرضنا تطوّر مفهوم المواطنة عالمياً وسياقاته التاريخية. فهل تجسّد فكر ومفهوم وثقافة المواطنة فيما سُمّيٓ بثورات الربيع العربي؟ وبالثورة السورية بشكل خاص؟ وهل برز بعد رئيسي جامع وموحد للفضاء الوطني؟
وقبل ذلك هل تاريخنا أو موروث شعوب هذه المنطقة عرف المواطنة ثقافة وممارسة؟
القبائل العربية قبل الإسلام لم تٓعرف الوطن ولا المواطنة ، وإنما عٓرفت شيئاً آخر وهو مفهوم الحمى، لأن نمط الإنتاج الرعوي الذي ساد في الصحراء كان يُجبر القبائل على التنقّل قاصدة الماء والمراعي.
فمفهوم الحمى كان عندهم مفهوم متحرك وليس ثابتاً كونه ينتقل مع القبيلة في حِلها وترحالها ومن مكان لآخر، فكانت رابطة المواطنة رمز يُشير للقبيلة وليس للأرض والوطن.
ثمّ جاء الإسلام ووجد بأن العصبية القٓبلية هي القانون الأساسي الذي يحمي القبيلة. فحاول تجاوز ذلك من خلال مفهوم الأمة، والذي يتعلق بمجموعة بشرية ما وليس بالأرض أيضاً كما هو عليه في المواطنة الحديثة. وأضحت الأمة الإسلامية هي مركز الثقل في تشكيل الوعي الجمعي عند المسلم وليس الدولة! وهذا مايُفسّر لنا توافد المجموعات الجهادية المتطرفة إلى سوريا بمختلف انتماءاتها السنية أو الشيعية، وبمختلف جنسيات أفرادها لتخوض حرباً خارج حدود بلدانها (ماجئنا إلّا لنصرة هذا الدين) مما يوضح بأن الدولة لم تكن محور العلاقات السياسية في الإسلام، وإنّما كانت وسيط خارجي لتحقيق تعاليمه.
لذا بقى مفهوم الدولة بمعناه الحديث من أكثر المفاهيم غموضاً والتباساً في الوعي الجمعي لشعوب المنطقة، لذلك نلاحظ بأن المخزون الإرثي لثقافة المواطنة في الفكر العربي بشكل عام فقير وشحيح. لكن يبقى السؤال! هل هذا المخزون الماضوي والإرثي فقط هو سبب كافِ حال دون تجذّر ثقافة المواطنة الحديثة في بلداننا وأعاق نمّوها؟
وهل هو وراء انفراط عقد المجتمعات العربية إلى ملل ونحل وطوائف وصراعات إثنية ودينية بمجرد اصدامها برياح الربيع العربي وصرخات الحرية التي أحدثت تشققات في جدار الاستبداد المزمن؟ وهل هذه البنية الثقافية الماضوية هي متكلّسة إلى هذا الحد! ولم تستطع رياح الحداثة والعولمة اختراقها؟ هذه العولمة التي هدمت كل المتاريس وأزالت كل الحدود والعوائق والسدود أمام انتشار المعلومة والثقافة وتجارب الشعوب الأخرى التي لم تعد توقفها بوابات التفتيش. بل أصبحت مخزوناً حقوقياً وحضارياً وإنسانياً تنهل منه كل شعوب الأرض.
أتصور إن هذا سبب لكنه ليس كافياً. فهناك سبب آخر وهو وقوع دولنا وشعوبنا تحت حكم سلطات استبدادية فاسدة وعصابات غيبت فكر المواطنة وأعاقت تشكيل الفضاءات الوطنية لشعوبها كمقدمة للخروج من أسر إنتماءات ماقبل الدولة.
وسنتعرّض هنا بإيجاز للحالة السورية كمثال يمكن تعميمه على عموم المنطقة. فأزمة المواطنة في سوريا لم تكن بسبب تاريخي موروث وثقافي ماضوي فقط! بل أيضاً تكمن في محاولة تغييبها قسراً من السلطة الحاكمة. هذه السلطة التي اعتاشت ومنذ سبعين عاماً على خطاب قومي تقليدي، تمرر من تحته كل سياساتها وممارساتها الاستبدادية وفسادها وسرقتها للمال العام وكل الجرائم التي ارتكبتها بحق السوريين تحت يافطة المقاومة وتحرير فلسطين والجولان!
فُرض قانون الطوارئ بعد ساعات من انقلاب ٨ آذار عام ١٩٦٣. وتم تعطيل الدستور وتغييب الحريات، ومُنع العمل بالسياسة وتغوّلت أجهزة الأمن في كل مفاصل الدولة والمجتمع، حتى طالت التفاصيل المجهرية لحياة المواطنين السوريين. بحيث أصبح أي حديث عن حقوق المواطن في الحرية والعيش، أو أي انتقاد لسياسة السلطة وسلوكياتها يُعدّ مساساً بأمن الدولة وإضعافاً للشعور الوطني ووهناً لنفسية الأمة.
لذلك جاءت الثورة السورية حدثاً انفجارياً نتيجة لسياسات الإنغلاق والتهميش والسجون، والعسف بالحقوق والفساد وحصار المجتمع. انفجارياً أزال الركام عن عمق الإشكالات المجتمعية، والتناقضات المسكوت عنها طيلة الفترة السابقة والتي نشاهدها الآن تسبح على السطح، محكومةً بمنطق وثقافة النظام! ثقافة الإلغاء والنزوع للعنف كممارسة وسلوك للتعبير عن نفسها. فالثورات ليس لها الأثر المُنشئ للظواهر والسلبيات بل لها الأثر الكاشف عنها، فهي تشكّلت في كنف النظام القديم وفي مفاصله وهي جزء منه.
وما مظاهر التطرّف والخطاب السافر عن الطائفية والمذهبية الذي نسمعه إلّا نتاج لسياق اجتماعي وسياسي طويل، ولثقافة مشوهة.
والمُعضلة تكمن في عدم إدراك القيمة الحقيقية لفاعلية الثقافة ودورها في تشكيل وعي اجتماعي قادر على استيعاب وتخطّي التناقضات الاجتماعية والسياسية، والتشوّهات الفكرية، وإنتاج تصوّرات مبدعة لسبر الواقع، وتحليل ظواهره وإشكالياته.
ان استفحال العنف المسلح، التطرّف، والتعصّب الديني، والنـزاعات الطائفية، وغياب التآلف الاجتماعي لايمكن علاجها إلّا بالعمل على استيعاب جميع الجهود الثقافية والسياسية، وتأطيرها في سياق برنامج وطني واضح المعالم والأهداف، إنساني الدلالة. يقطع مع الإستبداد بكل مستوياته وتجلياته الفكرية والسياسية والدينية، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يحظى بقبول السوريين، ويلبي تطلعاتهم ويحقق مصالحهم.
وليكون أفقاً جديداً وجسراً نعبر عليه إلى سوريا الجديدة، الدولة الآمنة الديمقراطية العادلة دولة الحق والقانون والمواطنة المتساوية.
مواد ذات صلة:
تطوّرمفهوم المواطنة وسياقاته التاريخية
جليلة الترك: الهوية: هي موقفنا من الوطن والمواطنة
الربيع العربي يمتد.. اليوم السودان وغداً؟