د. هاني حرب
أعلنت المستشارة الألمانية “أنغيلا ميركل” عدم رغبتها بالترشح لرئاسة حزبها المسيحي الديمقراطي خلال الانتخابات القادمة في كانون أول/ديسمبر هذا العام. في الوقت نفسه أعلنت بأنها ترغب أن تظل مستشارة لألمانيا حتى ٢٠٢١ ثم ستتنحى بعدها وتعتزل السياسة نهائياً.
تباينت ردود الأفعال في الشارع الألماني فرأى المرحبون أن هذه الخطوة تعني تجديد دماء الحزب المسيحي الديمقراطي لدخول انتخابات ٢٠٢١ بشكل أقوى وليتابع سيطرته على السياسة الألمانية بعد ١٣ عاماً من حكم ميركل و٣ أعوام أخرى متوقعة لحكمها.
كيف وصلت “أنغيلا ميركل” لتكون أقوى أمرأه على الأرض؟
ربما تعتبر ميركل أقوى سياسية على مدى عقود طويلة، ففي العام ٢٠٠٠ كانت قد وصلت لرئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي، وفي ٢٠٠٢ وبعد خسارته الانتخابات أزاحت “” من قيادة كتلة الأحزاب المسيحية في البرلمان. في ٢٠٠٤ استقال “فريدريش ميرز” الذي كان نائب رئيس كتلة الأحزاب المسيحية في البرلمان اعتراضاً على سياسات ميركل ضمن الحزب. قمت بذكر ميرز لأنه سيكون ذا دور كبير في مستقبل الحزب بداية ٢٠١٩ حسب استطلاعات الرأي الحالية.
في ٢٠٠٥ وبعد الدعوة لانتخابات مبكرة من المستشار “جيرهارد شرودر” فاز الحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة ميركل بالانتخابات الألمانية، وقامت بتشكيل حكومتها الأولى بالائتلاف مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي. منذ ٢٠٠٥ وحتى ٢٠١٥ قادت “أنغيلا ميركل” ألمانيا وأوروبا عبر العديد من المطبات والمشاكل السياسية والاقتصادية، وأهمها الأزمة الاقتصادية العالمية ٢٠٠٩ لتكون ألمانيا من أكبر الرابحين فيها لناحية انتعاش الاقتصاد الداخلي وزيادة الصادرات والصناعة الوطنية الألمانية.
بنفس الوقت قامت ميركل باتخاذ عديد التدابير عبر الاتحاد الأوروبي لدعم الدول الأوروبية المتضررة كاليونان، إسبانيا، البرتغال، إيطاليا وإيرلندا.. كما عملت لسنوات كمدبرة لمشاكل الاتحاد الأوروبي من جهة، ومشاكل دول أخرى كأوكرانيا، الشرق الأوسط وآسيا.
2009 فازت بالانتخابات الألمانية مجدداً لتشكل حلفاً جديداً مع الليبراليين الديمقراطيين بدلاً عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي والذي شاركها الحكم بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٩. وفي العام ٢٠١٣ نجحت ميركل بالفوز بولاية ثالثة لحكم الحزب المسيحي الديمقراطي، لتدخل ائتلافاً حاكماً مجدداً مع منافسها الأكبر الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
القرار الأهم في حياة ميركل السياسية
في العام ٢٠١٥ اتخذت “أنغيلا ميركل” القرار الأهم في حياتها السياسية، وهو فتح الحدود لأكثر من مليون لاجئ قادم عبر طريق البلقان وتركيا إلى ألمانيا. خلال هذا العام أطلقت ميركل شعار: “يمكننا أن ننجح بذلك“.
كان هذا الشعار محركاً لمئات الآلاف من الألمان لاستقبال اللاجئين “القادمون الجدد” والتعرف عليهم ومساعدتهم مادياً ومعنوياً. وتم إنشاء عشرات المنظمات الأهلية ضمن المدن والبلدات والقرى لمساعدة القادمين الجدد لإيجاد طريقهم.
العقبات البيروقراطية الألمانية التي طالما كانت سبباً في تأخر عديد الأمور في ألمانيا، كانت سبباً في خلق المشاكل بين ٢٠١٦ و٢٠١٧ وتسببت نهاية الأمر بعزوف العديد من الألمان عن مساعدة اللاجئين، أو حتى بتغيير ولاءاتهم السياسية، والذي أدى نهاية ٢٠١٧ لخسارة فادحة في الانتخابات البرلمانية الفيدرالية، وحصول حزب البديل من أجل ألمانيا، الحزب اليميني الشعوبي المتعصب على أكثر من ١٢٪ من أصوات الألمان.
اشتعال الأزمة بين ميركل ورئيس شعبة المخابرات
خسارة الأحزاب الشعبية الكلاسيكية أدت لتراجع شعبية المستشارة الألمانية، رغم هذا بدأت الحكومة الرابعة بقيادتها العمل نهاية ٢٠١٧ وأنهت عدة أزمات، منها أزمة مدينة كلاوستال، حيث قام رئيس شعبة حماية الدستور الألمانية “في المصطلحات العربية شعبة المخابرات” بمعارضة تصريحات المستشارة بقوله إنه لم يكن هنالك أية عمليات استهداف للاجئين والأجانب في كلاوستال. هذا أدى لأزمة ضخمة ضمن الائتلاف الحاكم، انتهت بإقالة رئيس شعبة حماية الدستور من منصبه وانتصار المستشارة.
الخسارة الأكبر للأحزاب الشعبية الألمانية
في العام ٢٠١٨ خسر الحزبان الاشتراكي الديمقراطي والمسيحي الديمقراطي، وأخوه الأصغر الحزب المسيحي الاشتراكي، في ولايتي بافاريا وهيسن الانتخابات المحلية على حساب حزبي الخضر وحزب البديل من أجل ألمانيا، لتكون أكبر خسارة للأحزاب الشعبية الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هاتان الخسارتان كانتا القشة التي قسمت ظهر البعير وأدت إلى تراجع المستشارة عن رغبتها بقيادة الحزب مع نهاية العام، وكذلك التنازل عن المستشارية بنهاية الفترة البرلمانية الحالية نهاية ٢٠٢١.
فما هي الأسباب التي أوصلت ميركل إحدى أقوى سياسيي العالم للتراجع والانسحاب؟
السياسة التي انتهجتها المستشارة الألمانية منذ ٢٠١٥ بفتح باب اللجوء والهجرة إلى ألمانيا دفعت الكثيرين من صقور الحزب المسيحي لمعارضتها، ومنهم وزير الداخلية الحالي زيهوفر، والذي يعتبر المسبب الأول لخسارة حزبه الانتخابات المحلية في بافاريا، وسبباً رئيسياً لانخفاض شعبية المستشارة مقارنة بالأعوام السابقة.
إضافة إلى ذلك فإن المشاكل الأوروبية المختلفة التي ظهرت، ومنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ونجاح الأحزاب اليمينية الشعوبية المتطرفة في عديد البلدان الأوروبية كإيطاليا، بولندا، اليونان وغيرها، دفع المستشارة لأن تتخذ موقفاً دفاعياً للحفاظ على المكتسبات الديمقراطية الأوروبية عموماً والألمانية خصوصاً.
المشكلة الأساسية التي اعترضت المستشارة خلال الأعوام الثلاثة الماضية هي مشكلة القادمين الجدد إلى ألمانيا. هذه المشكلة، ورغم أن القادمين اندمجوا بشكل كبير ضمن مجتمعاتهم على صعيد التعليم والعمل، إلا أن التركيز المباشر وغير المباشر ضمن الإعلام المحلي عليهم وعلى المشاكل المتعلقة بهم وتضخيمها، كأن الألمان أو الأقليات المهاجرة الأخرى ليس لها نفس المشاكل، كان له كبير الأثر على تعاطي المجتمع الألماني مع معطيات اللجوء، وكذلك على تغيير الساحة السياسية الألمانية.
سقوط المستشارة لم يكن إلا مسألة وقت
إن سقوط “أنغيلا ميركل” لم يكن مفاجئاً لمن يتابع السياسة الألمانية على وجه التحديد والأوروبية عموماً. فالتغيير كان واضحاً من حكومة منفتحة تحمل شعاراً رناناً كـ”يمكننا أن ننجح بذلك” إلى شعار: كيف يمكننا إغلاق الحدود وتحديد عدد المهاجرين، والتضييق عليهم! يعني أن من دفع بالشعار الأول لم يعد قادراً على توجيه الدفة بالشكل المناسب. وخسارة الانتخابات الفيدرالية أولاً ومن ثم في اثنين من أهم الولايات: هيسن وبافاريا، يعني أن الحزبين الشعبيين في ألمانيا مقبلان على تغيير كبير ليستطيعا محاربة التقدّم الرهيب لحزب البديل من أجل ألمانيا خلال الانتخابات الفيدرالية والمحلية الماضية في مختلف الولايات.
إن سقوط المستشارة القوية لم يكن إلا مسألة وقتية، إما ضمن حزبها لتجديد الدماء أو عبر الانتخابات. وعلينا أن نستقي العبر والاحكام من الوقائع، لنعرف كأقليات مهاجرة في ألمانيا كيف لنا متابعة حياتنا وأن نكون فاعلين في المستقبل للتأثير الإيجابي على نظام الحكم، البرلمان وغيرها من الأنظمة المحلية في الولايات المختلفة.
خاص أبواب
اقرأ/ي أيضاً للكاتب: