د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
لن أكتب هذه المرة عن بلدي الضائع سوريا ولا عن باريس منفاي الجميل، سأكتب عن لبنان، البلد الذي كان شاهداً لأهم مراحل حياتي. لن أخوض طبعاً في الدوامة السياسية التي تتخبط فيها المنطقة منذ سنوات، ولا في الكارثة التي ألمت أخيراً فخنقتني مع ناسها وأرضها وهوائها، ولا عن الفساد والنهب الذين أوصلوا “سويسرا الشرق” إلى هذا الدرك، وإنما سأتحدث عن لبنان الذي كان أخضراً في القلب ولم يعد كذلك.
بداية معرفتي بلبنان منذ طفولتي ومراهقتي كانت كالكثيرين غيري مع فيروز، أول دقة قلب مع أغنية “نحنا والقمر جيران” الآتية من بلد الحب. في المهرجانات المدرسية دبكنا على أنغام “خبطة قدمكم عالأرض هدارة” الأغنية التي لعبت الدور الكبير في حشد المواطنين السوريين خلال حرب 1973. كنا نخبط الأرض بأقدامنا معلنين وطنيتنا وحبنا لأرضنا. وهكذا بدا لي لبنان آنذاك رمزاً لحب الوطن والإخلاص له (يا للمهزلة).
عرفت لبنان من أحاديث والدتي وذكرياتها الجميلة فيه، ابتداءً من ذهابها إلى بيروت مع مدرسة الراهبات لتقديم امتحان البكالوريا الذي لم يكن متاحاً آنذاك للإناث في سوريا. إلى عطلها الصيفية في ضهور الشوير وعاليه مع أهلها. كبرت وكبر حبي له في إهدن حيث كنت أذهب مع عائلتي صيفاً، مروراً بطرابلس التي كنا نكتفي بالذهاب إليها حين يصعب الوصول إلى بيروت أيام الحرب، إلى بكفيا عندما دعا والدي العائلة بأكملها من أبناء وأحفاد للاحتفال بانتهاء الحرب اللبنانية عام 1992. إلى بعلبك ومهرجاناتها التي كنا نذهب لحضورها ونعود في ذات الليلة، وأخيراً بيروت منارتنا ومنارة الشرق.
بيروت يا ست الدنيا يا بيروت.. كانت وجهتنا لكل الأسباب ولجميع المناسبات، لقضاء العطل والالتقاء بأصدقاء يأتون من الخارج، للتسوق، وشراء الأدوية، لحضور المسرح والسينما والحفلات الموسيقية. عندما كانت تضيق بنا سوريا كان لبنان وجهتنا، كانت الحياة تدب في عروقنا بمجرد أن نجتاز حدود الدبوسية لنعبر القرى اللبنانية المختلفة عن قرانا. أما فرحتنا الكبرى فكانت بالوصول إلى بحر جونيه وبيروت. كنا فعلاً نشعر أنه (حليانة الدنيا حليانة بلبنان الأخضر). واللبنانيون كانوا بالنسبة لنا مثالا للشجاعة وحب الحياة رغم المآسي والحرب.
في لبنان بلد الحريات والثقافة والنور شهدت مراحل مهمة في حياتي؛ في مدرسة برمانا الداخلية أمضت ابنتي أول إقامة لها بعيداً عنا. في بيروت نال ابني شهادته الجامعية وأول عمل له. وكنت هناك في طرابلس عند اغتيال الرئيس رشيد كرامة، وكنت في بيروت لحظة اندلاع حرب 2006. أما جامعة البلمند فقد كانت أول شريك لي في حياتي المهنية في أول اتفاق بين جامعة سورية فرنسية لبنانية.
إلى بيروت هربنا من بطش النظام مع اندلاع الثورة السورية، وهناك توفيت والدتي، ومن مطار بيروت خطوت أول خطوة -طوعاً أم قسراً لا أدري- باتجاه حياة جديدة في المنفى. حفيدتيّ تنشدان عن ظهر قلب النشيد الوطني اللبناني “كلنا للوطن.. للعلا للعلم” حيث لم يتسن لهما تعلم النشيد الوطني لبلدهما الأم.
من منفاي الباريسي حضرت منذ أيام (على اليوتيوب) مهرجان صوت النضال من لبنان وبالتحديد من بعلبك، تأثرت وبكيت على بلد يتهاوى، يقتل فيه المواطن نفسه كيلا يرى أطفاله يموتون جوعاً، وتساءلت بسذاجة مفرطة: هل سيتأثر القادة الذين أحرقوا البلد كما تأثرت أنا؟ هل ستفعل الموسيقى في أنفسهم ما فعلته بي؟ هل سيجتاحهم الحنين لعز بلدهم القديم؟ وهل سيندمون –ولو للحظة- على ما اقترفت يديهم؟
اليوم أنا المواطنة السورية التي فقدت وطنها وحياتها ومهنتها، أبكي على لبنان، وأعرف في قرارة نفسي أنني أبكي على ماضٍ ولّى بأفراحه وأتراحه، على مستقبل غامض، وعلى سوريا التي تهاوت.
اقرأ/ي أيضاً:
الانفجار الذي بدأ منذ عقود.. نظرة إلى لبنان ما بعد الحرب وما أوصله إلى حريقه الأخير
ماذا تبقّى لهم؟ لبنانيون يسعون للهجرة بعد كارثة المرفأ وآخرون باقون..