طفلة في التاسعة من عمرها تتحدث ثلاث لغات بطلاقة وتعزف على آلتين موسيقيتين وتكتب الشعر بالألمانية.
ولدت زينة خلة “زنزونة” في العام 2007 في مدينة دبي في الإمارات، حيث كانت عائلتها تقيم هناك بحكم عمل أمها “لمى” كقنصل في القنصلية السورية.
بسبب عمل الأم والأب؛ بدأت زينة بالذهاب إلى الحضانة بعمر ثلاثة أشهر ونصف، وهناك تعلمت اللغة الإنكليزية إلى جانب العربية التي كانت العائلة تتحدث بها في البيت. وهي بعمر السنتين والنصف تعلمت القراءة والكتابة باللغة الإنكليزية. “الإنكليزية ساعدتها لاحقًا بعد انتقالنا إلى ألمانيا في التخفيف من صعوبة التواصل اللغوي في المدرسة” يقول والدها.
في العام 2010 عادت الأسرة إلى دمشق بعد انتهاء بعثة الأم في دبي، التحقت زينة هناك بالروضة واستكملت تعلم اللغة الإنكليزية وبدأت بتعلم اللغة العربية، وأتقنت الكتابة والقراءة بشكل جيد جدًا باللغتين.
والدة زينة: “زينة تعرّينا برسوماتها”
منذ أن بدأت بمسك القلم، ظهرت لديها موهبة الرسم والتلوين، واهتمامها بالأشغال الفنية، وكانت تقضي في ممارستها وقتًا طويلاً يوميًا. هذه الموهبة أيضًا انعكست على جمال خطها عند الكتابة بالأحرف العربية أو اللاتينية. تقول والدتها لمى: “زينة دائمًا تعبر عن انفعالاتها بالرسم، وفي أعياد ميلادنا أو في أيام المشاكسات بيننا، غالبًا ما يأتي تعبير زينة على شكل لوحة، أو رسم لوجه يحمل كل التعابير التي تريد أن تقولها لنا من فرح وغضب وحزن وضحك وبكاء، رسوماتها قادرة على إخراج أي إنسان من حالته إلى حالة أخرى تمامًا، زينة تعرّينا برسوماتها”.
الحياة بين القصف والحواجز
مع بدء نمو زينة وتفتح وعيها ومداركها كانت كغيرها من الأطفال تعاني من أصوات القصف الشديد والاشتباكات والتعرض لخطرها في البيت، روضة الأطفال، أو في الطريق. معاناة الانتظار الطويل لاجتياز حواجز النظام، عدم التمكن من الخروج من المنزل لأيام أو العودة إليه، الساعات والأيام الطويلة دون كهرباء، ماء، أوتدفئة، تضيف لمى: “كنّا أيضًا نعاني من عدم قدرتنا على الإجابة على أسئلتها حول ما يجري خشية على حياتنا وحياتها” يعقّب الأب زياد: “في إحدى المرات كان السير متوقفًا كالعادة بسبب الحاجز، وكنا وقتها بالقرب من مطار المزة العسكري لحظة انطلاق صاروخ منه موجه إلى الأعلى -قالوا لنا ربما كان أحد صواريخ السكود المنطلقة باتجاه إحدى المناطق الثائرة- عندها صرخت زينة من الفرح: ماما بابا هاد الصاروخ فيه رائد فضاء؟؟ قلنا لها: لا، هذا صاروخ سيودي بالناس إلى الفضاء! لم تدرك زينة وقتها النكتة السوداء التي قلناها للتو، واكتفت بمراقبة الدخان الأبيض وراء الصاروخ”
الخروج من سوريا
ربما كان للخروج من سوريا الأثر الأكبر على شخصية زينة ونفسيتها، فقد خرجوا بدون أي تحضير أو وداع لكل تفاصيل حياتها هناك، الأقارب، الأصدقاء، بيتها، غرفتها وألعابها، كل ما كان في ذاكرتها تركته فجأة هناك، تصف الأم هذا الخروج: “كان عبارة عن اقتلاع ما زالت تذكر بعضا من تفاصيله وتداعياته حتى اليوم”.
قررت لمى الانشقاق عن النظام وترك العمل في وزارة الخارجية، بسرية شديدة بدأت التحضير لرحلة الخروج، يتابع زياد: “بعد بضعة أشهر من التحضير، خرجنا بها صباحًا من المنزل، كأي صباح عادي باتجاه الروضة، ودّعت لمى الأطفال وودعتني في أحد شوارع دمشق، دون أن تلفت الانتباه، زينة وسالم ذو العام والنصف معي في اتجاه، ولمى في اتجاه آخر مجهول!”.
ساعات والطفلة تسأل عن الطريق الذي طال، “أين نحن ذاهبون؟” أجوبة قصيرة مختصرة ومضللة حصلت عليها، الأجوبة غير مقنعة، “لماذا لا ترافقنا ماما؟”
يتابع زياد “وصلنا براً إلى بيروت، ليلتين، وبعدها طرنا إلى برلين. الأسئلة لم تتوقف، “لماذا نحن هنا؟ ماذا نفعل؟ أين ماما؟” زادت الأسئلة في المطار وفي الطائرة، الطفلة تشعر أنها تبتعد أكثر عن مكانها وعن أمها، وألمانيا لا تعني لها شيئًا، لم تسمع بها من قبل، الأهم أنها بعيدة عن أمها. وصلنا إلى مطار برلين ليلا، انتقلنا من المطار إلى سكن اللاجئين في مدينة صغيرة على أطراف برلين، شكل المكان والوحدة فيه مع غياب الأم وعدم القدرة على التواصل صدمة للجميع، وخاصة زينة، في ساحة السكن الكثير من الأطفال، جنسيات مختلفة، لغات مختلفة، ولا سبيل للتواصل معهم وبالتالي اللعب، في اليوم التالي لوصولنا، التقت بطفلة تكبرها ببضعة سنوات من تشاد ولكنها تتكلم العربية، خفف الأمر قليلاً على زينة، وبدأت تخرج للعب”.
اجتماع العائلة من جديد
في اليوم الخامس وصلت لمى إلى مكان إقامتهم ليلاً، قبل وصولها، لم تتوقف زينة عن السؤال عن أمها وعن مغادرتهم دمشق، تنشغل قليلا باللعب، لتعود وتسأل مجددًا، دون أن تحصل على إجابة، سوى أن عليها الانتظار.
وصول الأم، أعاد الشريط في عقل زينة، وتحول إلى نوبة غضب “استمر أثرها إلى اليوم مع كل ذكرى تمر عن الشام، ومع كل مرّة تخرج فيها لمى من المنزل” يعقب زياد، الأيام التالية أصبحت نسبيًا أسهل على الأطفال باجتماع الأسرة من جديد، وانشغال زينة مع باقي الأطفال وبدء تشكّل صداقات جديدة، ولكن الأسئلة صارت أكثر “ماذا نفعل هنا في ألمانيا؟ لماذا لم نعد بعد إلى الشام؟ هل جدتي في الحرب؟ هل غلفتم ألعابي جيدًا؟”.
اللغة الألمانية والاندماج
تقول لمى: “بعد شهرين من وصولنا التحقت بالمدرسة، ودخلت الصف الأول في مدرسة الحي القريبة من الملجأ، كان اليوم الأول يوم تغيير كبير في حياتها. الحماسة التي رافقتها في اليوم الأول قابلها عدم قدرتها على التواصل مع رفاق الصف الجدد، أما مع معلمتها فقد تجاوزت نوعًا ما تلك الصعوبة بالتواصل معها بالانكليزية، الأمر شكل عائقًا في البداية أمام زينة للاندماج في صفها، وأشعرها بنوع من النقص أمام زميلاتها وزملائها، لكن معرفتها بالإنكليزية أشعرتها بالمقابل أنها تمتلك ما يميزها عن باقي الأطفال، إضافة لاهتمام المعلمة ورعايتها، وصداقة زينة المبكرة مع إحدى زميلاتها، كل هذا ساعد في عودة بعض التوازن إليها والبدء في مشوار تعلم اللغة والاندماج في جو الصف والمدرسة والمكان الجديد” يعقب زياد: “بلا شك ما كان ذلك لينجح حتى مع استعدادات زينة وسرعتها الواضحة في التعلم ورغبتها بذلك، لولا النظام التعليمي القادر على تحفيز الأطفال ورعايتهم، لا بد من القول إنه إن كان من مقدسات في المانيا فعلى رأسها الطفل، ثقافة الحياة هنا كلها تدور حول الطفل.. والإنسان”.
سيرة فنية حافلة
خلال أشهر قليلة تمكنت زينة من تعلم اللغة الألمانية، وتوقفت عن التحدث بالإنكليزية مع معلمتها. فقد خصصت إدارة المدرسة معلمة لمساعدة زينة مع آخرين من التلاميذ القادمين حديثا إلى ألمانيا في تعلم اللغة، حيث تم تخصيص يوم في الأسبوع تقضيه زينة برفقة تلك المعلمة خلال دوام المدرسة لتعلم اللغة، غالبًا عبر الموسيقى وأغاني الأطفال، زينة الآن هي مترجمة المنزل الصغيرة. زينة اليوم تتنافس مع زميلها الألماني في الصف على المرتبة الأولى، وحازت مؤخرًا على جائزة القراءة في المنزل، متفوقة بذلك على باقي الطلاب الألمان، واستعادت أخيرًا شعبيتها المعتادة بين الجميع.
لاحظت معلمتها موهبتها بالرسم، وقابلتها بالاهتمام. مثلًا: تقوم المدرسة سنويًا بطباعة تقويم “روزنامة” وتختار المدرسة رسومات الأطفال لتكون ضمن صفحات أشهر هذا التقويم، في السنة الماضية تم اختيار أحدى رسومات زينة لتكون ضمن التقويم.
بدأت زينة بتعلم العزف على البيانو في 2014، وكان من المفترض أن تتشارك بالدروس مع طلاب آخرين، لكن مدرستها طلبت تخصيص الحصة الدراسية لزينة وحدها، اعتبرت أنها ستكون أسرع من الأطفال الآخرين في التعلم على الآلة، وبالتزامن مع تعلّم البيانو، بدأت التعلم على آلة الفلوت في المدرسة، وعزفت زينة في أكثر من مناسبة واحتفال للمدرسة.
شاركت في صيف العام 2014 بمشروع فيلم للأطفال، قامت زينة وصديقاتها بكتابة قصة وسيناريو للفيلم وإعداد الديكور وتصميم الملابس، وتمت طباعة الفيلم وتسجيله على شكل”CD” وتوزيعه، وتم عرضه عدة مرات، وفي أماكن مختلفة في المدينة التي نقيم فيها، واشتركت زينة أيضا بالغناء على المسرح في مدينة تلتو Teltow”” يوم عيد الوحدة الالمانية 2014.
بدأت زينة مع اتقانها أكثر للغة الألمانية بكتابة قصائد قصيرة باللغة الألمانية، فيها تبرز مقدرة زينة على التمكن من اللغة باختيارها المناسب للقافية وبما يخدم المعنى الذي تريده، تتميز تلك القصائد بالطرافة ومعانيها المحببة واللطيفة. إحدى تلك القصائد نالت إعجاب مدرسة الموسيقى في المدرسة، القصيدة تتحدث عن فصول السنة، طلبت المعلمة القصيدة لتقوم بتعليمها للأطفال، زينة لحنتها وحولتها لأغنية يتدرب عليها الأطفال ليؤدوها في حفل المدرسة لاحقًا.
تزور زينة أيضا مدرسة الفنون في المدينة التابعة لبلديتها، هي تشارك في دورة خزف أسبوعيًا، تمكنت زينة من تعلم بعض تقنيات تشكيل الطين وتلوينه، وصنعت عدة تماثيل صغيرة وجميلة وزرقاء، لأن الأزرق لون زينة المفضل.