د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
يوميات مهاجرة 12
هناك لحظات نعيشها بصدق كامل مع أنفسنا، نشعر فيها بشفافية مطلقة وتتراءى لنا بوضوح تام كل النقاط البيضاء والسوداء في حياتنا، بل وحتى الرمادية منها. لحظات من التجلي الكامل حيث نرى ما كنا نعتبره سابقاً، تساؤلات مهمة لا جواب لها ولا تفسير وكأنها أكثر الألغاز صعوبة وغموضاً، قد بدت الآن غاية في البساطة والبديهية.
هذه هي المرحلة التي تعيشها صديقتي في المنفى، والتي تدفعها، كما يحدث الآن وسيحدث فيما بعد أن تستخدم كل العبارات لصياغة هذه الأسئلة الافتراضية، وهي تعتقد أنه يحق لكل إنسان أن يطرح هكذا أسئلة وأن يجيب عليها أيضاْ، إذا كان بإمكانه بالطبع الإجابة. ولمحاولة الإجابة على هذا النوع من الأسئلة لا بد لها من الحديث عن التاريخ ماضياْ كان أم حاضراْ أو حتى مستقبلاْ، كما كان يمكن أن يحدث أو كما يحدث الآن وسيحدث غداْ.
أنصت إلى صديقتي التي تتكلم ونظرها يذهب بعيدا جداً , إلى ما وراء السحاب وكأنها تريد أن ترى وطناً محدداً، هناك حيث من الممكن أن تشعر بنوع ما من الأمان، أو تريد أن ترى مدينتها الصغيرة قبل أن يجتاحها الدمار، أو حتى بيتها قبل أن يأكله الغبار.
أسمعها تقول: “أؤكد لك أنه كان لي حياة حقيقية, وكنت كسائر البشر، أزاول مهنتي التي أحبها، وأمارس رياضتي المفضلة، كنت أفسح المجال لنفسي أن أعيش كل مشاعري بصدق وعفوية، أضحك بصدق وأبكي بعفوية، كنت أؤسس لبيت صغير دافئ حميمي ليجتمع فيه الأهل والأولاد والأحفاد و الكثير من الأصدقاء، بيت يعبق بذكريات حلوة ولحظات معاشة وتوقعات وآمال وأمنيات وإن كانت متواضعة ولكنها حقيقية”.
الأمس دخل في عالم الذكريات وطقوس الهرب. اليوم أنا اللاجئة التي لا هوية لها، لا وجود لها ولا طبقة ولا تعريف حتى يثبت العكس، وحتى ذلك الحين علي أن أشعر بالانتماء لشيء ما لمكان ما أو حتى لزمن ما. سأنتمي للحظة الآنية فهي الوحيدة الحقيقية، لأي مكان جميل تنمو فيه أزهار صفراء ولأي شارع في هذه المدينة الساحرة أمشي فيه بحرية وانطلاق، سأغير رياضتي المفضلة وأتمتع بكل ما يساعدني على التنفس بعمق والاسترخاء، سأستعير من حياتي الماضية نقطة مضيئة وأحاول استرجاعها كلما شعرت بضيق الغربة، سأسمح لنفسي التمتع بقدر من الإنسانية بأن أمتنع عن آلية الاستمرار بالحياة ببرود وتجرد وأترك العنان لكل المشاعر أن تجتاح نفسي .
أما غداً، سأؤجل التفكير به حالياً، وفي حال إصراره على اجتياحي سأحاول إقناعه أن نذهب سوية إلى البحر لنتمتع بزرقة مياهه ونفكر سوية على ما سنتفق عليه، وإن كنت أعرف منذ الآن أنني لن أناقشه في قراراته ليختار لي ما يحلو له. سأتظاهر أنني أشاركه التفكير ولكنني في الحقيقة سأكون مشغولة بتعداد موجات البحر وسماع صوتها علًها تنقل لي رسالة ما.
تبتسم صديقتي بسعادة حزينة أو ربما بحزن سعيد لم أعرف كنهه وقالت بهدوء مذهل:
وبالانتظار سأحمل قصتي ونكبة كل السوريين أمثالي الذين اضطروا أن يتيهوا في أنحاء المكان والزمان المختلفة لنحلم معاْ بالرجوع إلى وطن مشترك في سوريتنا، وربما كان ذلك في عمر آخر أو في حياة أخرى، وحينها سأكتب عن خيباتنا المتراكمة برجوعنا إلى وطن لم يعد لنا فعلا فيه مكان، سنعود مثلما عاد الفلسطينيون إلى فلسطينهم ليكتشفوا أنها ما عادت لهم. وحينها سأختصر هويتي وحياتي بخيبة واحدة.
وحتى ذلك الحين، سأكتفي بعيش حياة ربما لا أنتمي لها وربما كانت تخصني أو لا… لا أدري، ولكن يقيني الوحيد هو متعتي في اكتشاف ذاتي من جديد مع اكتشافي لهذه الحياة الجديدة.
يوميات أُخرى:
زاوية يوميات مهاجرة 11 : صباح يوم غير عادي …!
زاوية يوميات مهاجرة 10: وطن …!
زاوية يوميات مهاجرة 9 – ماذا لو…!