د. نعمت أتاسي. كاتبة سورية تحمل دكتوراه في الأدب الفرنسي ومقيمة في باريس
يوميات مهاجرة 11
كان صباحاً عادياً كغيره من الصباحات الأخرى، غير أن صديقتي التي استيقظت مبكراً جداً، رأته رمادياً بامتياز. ليس فقط لأن السماء كانت مكفهرة والشمس عبثاً تحاول الظهور ولو بشكل خجول، وإنما لأن صديقتي شعرت فجأة بثقل الأيام التي تمر والتي تجثم على صدرها وتدفعها للاختناق، شعرت أنها تعيش الحياة برزانة جداً. أو بالأحرى أنها لا تعيشها كما ينبغي لها أن تُعاش.
أن تعيش الحياة فعلاً، هو أولاً أن تسمح لنفسك باختبار كل أنواع الأحاسيس والمشاعر: من فرح وسعادة، حزن ومرارة، قناعة أو حتى ألم عميق، المهم أن لا تختزلها بإحساس واحد بليد لا معنى له.
أن تعيش هو أن تدع لنفسك الفرصة للتعبير عما يحلو لك، ولا تلجم نفسك عن أي انفعال. أن تسمح لنفسك أن تنخرط في نوبة بكاء بدون أن تقنعها أنه لا فائدة من هذا البكاء الذي سيجعلك تغرق في بحر من الحزن لا شاطئ فيه. أن تعبر عن غضبك وألمك وتصرخ بصوت عال بدون أن تسكت وتقول في نفسك لن يفيدني هذا الصراخ بشيئ. أن تسمح لحالات الخوف والقلق أن تنتابك من وقت لأخر ولا تحاربها وتتجاهلها، أو حتى أن تعطي لنفسك الفرصة للشعور بالسعادة ولو كانت بدون سبب معين وأن تشعر بالطرب لسماع أغنية جميلة ولا بأس إن تمايلت قليلاً .
شعرت صديقتي فجأة أنها متعبة نوعاً ما من رصانة حياتها وتراكم أيامها كما يجب أن تتراكم، وحتى أنها لم تعد تجد معنى لهذه الأيام التي توقفت أيضاً عن عدّها ووضعها في خانة معينة تعطيها دلالاتها، لتفقد بذلك قدرتها على تمييز أي شيءٍ.. جميلاً كان أم قبيح.
حاولت أن تدخل في أعماق ذاتها التي اعتادت أن تتجاهلها منذ بداية منفاها الإرادي أو القسري- لم تعد تميز بينهما- لتتفاجأ برتابة الحياة التي فرضها عليها تغيير المكان والزمان. عندما يضيع الإنسان بين حياة سابقة وأخرى لاحقة، بين وطن ولا وطن، يفقد قدرته على الكثير من الأشياء.
هو المنفى الذي يجعلك متأرجحاً بين زمانين ومكانين، تحاول عبثاً التشبث بأحدهما، ولكن لا شيء يربطك بأي منهما. فلا أنت قادر على أن تعود بالزمن لحياة ماضية حقيقية لم تعد تربطك بها سوى ذكريات بعيدة، ولست بقادرٍ أيضاً أن تعيش حياتك الآنية بكل جوارحك.
مع تغيير الزمان والمكان فقدت صديقتي لياقتها في التعبير عن مشاعرها، وكأنما هذه المشاعر بحاجة لوطن ما كي تطفو على السطح، وكأن المنفى يشكل الموت الأكبر لها.
وهكذا فقدت قدرتها على التمييز، ما بين السعادة والحزن، الجوع والشبع، الراحة والتعب، الأرق والنوم، حتى أنها فقدت القدرة على اختيار ملابسها، التي بدأت ترتديها برتابة مملة جداً، فقدت القدرة على التذوق حتى باتت لا تميز طعم الزيت والزعتر الذي تحبه. وهنا فهمت صديقتي لماذا لم يعد للأطباق التي تطهوها أي طعم وأي مذاق، لأنها بكل بساطة فقدت قدرتها على التذوق مع فقدانها لحياتها القديمة.
في هذا الصباح سمحت لنفسها بالاعتراف بأنها لا تعيش فعلياً، وتساءلت: كم مرَ من الوقت منذ أن كانت تجد للطعام الذي تأكله طعماً؟ كم مرَ من الوقت منذ آخر مرة شعرت بأي توازن، حتى ولو كان توازن حراري؟
شعرت صديقتي بالحنين لزمن كانت ضحكتها تستجيب لها وتنبعث من أعماقها أو حتى للحظات كانت تبكي فيها بحرقة، لزمن كانت تعيش بطبيعية بدون قيود وحدود، أن تخرج فيه من منزلها لتمشي دون أي هدف ولو في ساعة متأخرة من الليل، أن تشرب البيرة في قهوة رصيف مجهولة، أو أن تجلس مع أصدقاء حقيقيين على طاولة المطبخ وتبقى ساهرة طوال الليل.
تشتاق للحياة الفعلية بكل تفاصيلها. أن تكون الحياة حقيقية ليس بالأمر المعقد فعلاً، يكفيك مثلاً أصيص ورد أصفر تضعه أمامك، أو فنجان قهوة مميز تبدأ فيه نهارك.
تجاوز عمر منفاها سنوات طويلة، وما زالت صديقتي عاجزة عن تأسيس عادات يومية لها، وما زالت تحتار كل يوم في اختيار الركن الذي ستشرب فيه قهوتها الصباحية. وتكاد تجزم بأنها في اليوم الذي غادرت فيه مكانها الأصلي، كان عليها التأقلم على اللامكان واللازمان، حيث تفقد الأشياء فيه معناها وطعمها الحقيقيان، وحينها لم يسعها سوى القول بأنه كان هناك يوماً ما حياة عادية، مهنة عادية، وكان للزعتر طعمه الحقيقي.
يوميات أخرى:
زاوية يوميات مهاجرة 10: وطن …!
زاوية يوميات مهاجرة 9 – ماذا لو…!