بطرس المعري. فنان وكاتب سوري مقيم في ألمانيا
زاوية حديث سوري: أعياد وولائم…
قبل بضعة أيام، جاءني جاري التركي بطبقٍ شبيه بطبق “الحبوبيّة” التي نعرفها في بلادنا والمؤلفة من مجموعة من الحبوب المسلوقة والمحلاة بالسكر، وقال هذا “عاشوريه”، نصنعها يوم رست سفينة النبي نوح والذي يصادف أيضاً يوم عاشوراء.
وحكى لي الجار أن النبي يومها طهى كل ما بقي لديه من مؤونة في قدر واحد، وفي تقاليدنا يجب أن يكون فيها سبعة أصناف من الحبوب والمكسرات والفاكهة، كما يجب أن توزع على سبعة جيران. كان الطبق لذيذاً شهياً في الحقيقة.
وتذكرت هنا، أول أيام سكني في هذا المبنى عندما طرق جارٌ ألماني بابي، وقد عرف أنني رسام، وطلب مني قليلاً من اللون الأبيض وريشة كي يستر به عيباً في أحد الجدران. بعد دقائق، عاد إلي يشكرني وبيده منديلٌ ورقي فيه بضعة بسكويتات وقال لي: نصنع هذا البسكويت بمناسبة عيد النيكولاس.
أتحدر شخصياً من بلدة في جبال القلمون، هي على بعد أقل من ساعة من العاصمة دمشق، فيها كنائس عديدة على صغرها ودير كبير للسيدة العذراء يعود بناؤه إلى القرن السادس الميلادي ويزوره السكان من جميع الأديان والملل.
وعيد الدير هو عيد ميلاد السيدة، ويقع في الثامن من شهر أيلول من كل عام، فيزور البلدة المئات في تقليد سنوي يبدأ عشية العيد بكرنفال تقليدي موسيقي يخترق شارع البلدة الرئيسي، وينتهي في صباح اليوم التالي مع الصلاة قبيل الظهيرة. وقد وصلتني بعض الصور ومقاطع الفيديو عبر رسائل على هاتفي المحمول فيها شعائر العيد وجموع المصلين أو المحتفلين فشعرت بالحنين إلى طقوس عيدٍ قلما كنت أعيره اهتماماً وأنا هناك.
في الحقيقة لست على يقين إن كان جاري يهتم بالذكرى الدينية قدر اهتمامه بالحلوى، ولا إن كان جميع من يزور بلدتي في هذا اليوم يأتي كي يصلي، ولكنني على يقين من أن الجميع يكون سعيداً مبتهجاً. هذا على مبدأ صديق لي يقول دائماً إنه لا يصوم رمضان ولكنه يقدس وقت ومائدة الإفطار، ويكون سعيداً حينها برفقة أو “جَمعة” العائلة والأصدقاء، مولماً كان أم ضيفاً.
وربما يقال إن كل ما ذكرته هنا من أفكار أو تقاليد تتواكب مع الأعياد الدينية تصب في خانة القشور، وإن هذا لا يخص الإيمان. لكني أراها بالمقابل طقوساً جميلة محببة لا تسيء إلى أحد بل تصنع الألفة والتقارب ما بين الناس المختلفين في مذاهبهم وعروقهم.
ما أريد قوله من كل هذا السرد إنني، إضافة إلى جانبه الروحي، أرى في كل دين ثقافة وعادات مختلفة تغنينا وتجعلنا نقترب من بعضنا البعض. ولا نعرف إن كان هذا من حسن حظنا أم أنه سبب الواقع المزري حقاً الذي نعيشه، أننا ولدنا في بلاد متعددة الطوائف والمذاهب والأعراق. لكن هذا بالنسبة إلي مثلاً، (وهكذا يجب أن يكون للجميع)، هو مصدر غنىً ثقافي ومعرفي في عملي ومصدر إلهام.
لا أستطيع أن أتخيل لوحاتي من دون الموروث الإسلامي، كما لن تستطيع لوحاتي أن تكون أصيلة من دون كل هذا التراث الذي تشبعت به روحي قبل عيني في أحياء دمشق المختلفة كما في طرقات بلدتي.
التقوقع أو الانغلاق على الذات في غربتنا هذه أو في بلادنا الأم لم ولن يفيدنا. فقد بتنا نعيش في عالمٍ بدون حدود من هاتفنا المحمول أولاً وانتهاءً بفضاءات أخرى للتواصل، حقيقيةً كانت أم افتراضية، فلنستفد من هذا التنوع الثقافي الذي يحيط بنا لتوسيع أفقنا ومداركنا أولاً وليكون مدخلاً لتقبل الآخر المختلف من أجل بناء المستقبل المعنيين به جميعاً.
أحاديث سورية أخرى:
زاوية حديث سوري: العنصرية و البولمان والمخلل..
زاوية حديث سوري – انقراضُ العرب…
زاوية حديث سوري: يا أمطار هامبورغ.. اغسليني