شريف الرفاعي* “كان يحلم بسجلٍ كبير يسجل عليه أسماء زبائن كل المقاهي الباريسية منذ مائة عام، محدداً ساعة وصولهم وساعة رحيلهم. كانت فكرة “النقاط الثابتة” هاجسه الدائم نعم، فبحسب بوين، يتوجب علينا في دوامات المدن الكبيرة أن نجد بعض النقاط الثابتة”.
هذا ما كتبه الروائي الفرنسي باتريك موديانو في روايته: “مقهى الشباب الضائع”، والنقاط الثابتة هي تلك التي نعتاد عليها، كأن نذهب إلى مقهى محدد، أو شارع يألفنا ونألفه، أماكن ثابتة تربطنا بها ونرتبط بها فتحمينا من الضياع والغربة.
بدا لنا ذات يوم أن أماكننا الثابتة أزلية، وأننا نملك الفضاء اللامتناهي لمحيط حياتنا. كانت المدن ثابتة، قاسية لكن ثابتة، أمنيّة بامتياز ومملة لكن ثابتة. وكان لكل منا عاداته وأمكنته الثابتة التي تتجاوز الجغرافيا لتصل إلى التاريخ والمفاهيم وسبل العيش. وهكذا كان الدين مكاناً ثابتا للمؤمن، والعروبة مكاناً ثابتا للقومي، والتقاليد مكاناً ثابتاً للمجتمع. كانت المرجعيات واضحة، محسومة، لا تحتمل النقاش والنقد. لا المؤمن يقبل الجدال في دينه، ولا العروبي في قوميته.
وعندما تمكن منا الاستبداد عسكرياً ودينياً كانت المجتمعات قابلة للتدجين، فحافظ بمكرٍ على ثوابتها ولجأ إلى القمع واللعب على الحزازات والعصبيات حين لزم. لم تمس الأنظمة العربية على فجورها الثوابت الموروثة، لم يكن ذلك مهماً ولا ضرورياً طالما الثبات، بما هو استمرار للمُلك، هو القاعدة.
حتى زمن قريب كانت العروبة واحداً من أماكن ثابتة نلجأ اليها متأففين شاكين، بدا لنا حينها أنها تتسع للآهات والخلافات، وأنها إناء رحب يحتمل التنوع والتعدد. كان ذلك قبل أن يحتكرها جلادوها ومنافقوها وقبل أن يؤوّلوها ويقّولوها مالم تقل. ثم حصل أن اكتشفنا ثقل القبيلة وقوة جذورها، وأن المجاهر بحب العروبة هو نفسه من أزمع على قتلها، واكتشفنا أن الصمت ليس دائماً رضى، وأن هناك من عاش العروبة كإلغاء لقوميته فنظر إليها بشكٍ ووجل. القواسم المشتركة أقل مما يُقال، وما يفرق أكثر مما يجمع. من العربي اليوم؟ أهو الهارب من جحيمه أم الغارق في نفطه؟
ولكن ماذا لو كنا نعيش آخر أيام الأماكن الثابتة؟ ماذا لو كانت الثورات قد أنهت ما تبقى من ثوابت حياتنا؟ هناك مدن سوتها الدبابات بالأرض، ومدن اختفت وأخرى غيرت أسمائها، ولم يعد ثابتاً إلا البؤس. افتتح الرحيل أبوابه وتدفق الهاربون من الجحيم، فلم يحمهم دين ولم تنقذهم عروبة، فقدنا المكان ولم نستبدله بآخر واكتشفنا على الطريق أننا لا نزال شعوباً وقبائلاً- لا تريد التعارف- وأن أكذوبة الثبات تحتاج إلى إعادة تأويل.
ينتقل موديانو إلى الحديث عن الأماكن المحايدة، فيصفها بأنها شوارع مفتوحة على الجانبين، لا خصوصية لها ولا رائحة، يقطنها أولئك الهاربون من حياتهم، مناطق الـ”نو مانز لاندز”، حيث نكون على حافة الأشياء كلها، في حالة انتقال (ترانزيت) دائم، معلقون في الفراغ وننعم رغم ذلك بنوع من الحصانة.
أه يا موديانو، لو أنك زرت مدننا لرأيتها لم تخرج من المناطق المحايدة منذ عقود. لقد حايد إنساننا الساسة والشيوخ والتقاليد، وعاش هجينا يبحث عن توازنٍ مستحيل. وعندما بدأت الثورات تحركت معها جحافل المغول الجدد واصطدمت الكتل الكبرى على ترابنا الطري، وكان إنساننا دون مناعة عرضة للرياح وللأمواج. ثم أتت القنابل والبراميل والطائرات، وبات الخروج من المناطق المحايدة محتماً، لم يعد الاختباء خلف الجدران مجدياً بعد أن وصل الموت إلى داخل الغرف ولم يعد الانكفاء مثمراً، ولا مجال لتفادي الاصطفافات.
يقول موديانو أنه يهوى قراءة أدلة الهواتف القديمة: اسم ما، ثم عنوان ما ثم رقم هاتفٍ، وخلف ذلك يختفي طيف إنسان له قصة حياة وموت، وربما لم يترك أثرٍاً على هذه الأرض سوى اسم ورقم هاتف وعنوان قديم لم يعد يقطنه أحد. ونحن؟ هناك على امتداد أراضينا المنتهكة، من ليس له حتى ترف الوجود على دليل هاتف منسي، هناك من لن يترك على الأرض المحروقة سوى عواء الجوع وألم النزوح وروايات الموت، تأوه الناس في الملاجئ والقوارب، والجحيم الذي غدا جاراً وأليفاً.
في النهاية تلقي بطلة الرواية لوكي بنفسها من النافذة، لم تكن تملك في حياتها أية نقطة ثابتة، وكانت أكثر صدقاً ونبلاً من أن تقضي حياتها في الأماكن المحايدة، فقفزت إلى الفراغ!
قد تكون بلادنا قد قفزت أيضاً إلى الفراغ، وربما نكون كلنا في هذه اللحظة الطويلة التي تسبق الموت أو الاستيقاظ لبدء حياة جديدة. لا مكان للتفاؤل أو التشاؤم، بل لا مكان لأي شيء في زمن اختلاط البدايات والنهايات، أي شيء باستثناء محاولة لملمة ما تبقى من فسحة قواسم لاتزال تجمع بيننا، فسحة عيش وفسحة أمل.
لا مكان لأي شيء باستثناء ما تبقى من أماكن ثابتة تربطنا، في نقطة ما بين فراغات مخيفة وقاتلة.
شريف الرفاعي* كاتب ومعماري سوري مقيم في باريس
اقرأ/ي أيضاً: